الإعلام الاميركي المحلي يسقط مجدَّداً فـي فخ الإثارة وقلة الموضوعية وعدم الاتزان والالتزام الحقيقي بالبحث عن الحقيقة بدل النفخ فـي قارب التهويل والنقل المجتزئ للأخبار كما فعل فـي مجزرة «شابل هيل».
فبعد تحقيق حكومي مفصّل استمر أكثر من ثلاث سنوات، أعلن مكتب التحقيقات الفـيدرالي الـ«أف بي آي» انه لا توجد أية مخالفات قانونية وارتكابات فساد من قبل مسؤولين قياديين فـي مقاطعة وين وهو إعلان لم تتمكن وسائل الإعلام من هضمه بسرعة وكانت نتيجته عصيبة عليها.
محافظ المقاطعة التنفـيذي السابق روبرت فـيكانو غادر المقاطعة يجرجر أذيال الخيبة مخلفاً وراءه مأساة مالية ناجمة عن عجز فـي الميزانية يقارب ١٠٠ مليون دولار. ولكن متاعب المقاطعة الاقتصادية والإدارية لم تكن كلها من صنع يديه.
كانت مقاطعة وين لتوها واقعة فـي ورطة مالية عميقة عندما بدأت وسائل الاعلام ولا سيما القناة السابعة المحلية تنهش بفـيكانو وبإدارته. فمن السهل والبساطة والسذاجة إلقاء اللوم على رجل واحد فـي كل شيء، إذا اختلطت الأمور. ولكن الحقيقة ليست بتلك البساطة، بل اكثر تعقيداً من ذلك بكثير.
مقاطعة وين كانت عرضة لمشاكل مالية كبيرة نتيجة للواقع الاقتصادي المعقد المرتبط بظروف خارجة عن إرادتها ومساحتها الجغرافـية والبشرية. وعندما حلَّتْ كارثة سوق الإسكان العامة فـي سنة ٢٠٠٨، لم تترك من شرها أية مقاطعة وبلدية فـي البلاد. ولكن مقاطعة وين كانت أكثر من باقي المقاطعات تضررا من الأزمة.
فهبوط قيمة العقارات وانتكاسة صناعة السيارات وتراجع الخدمات فـي ديترويت، وهي أعمدة الإقتصاد الفعلية فـي مقاطعة وين، عصفت بعوائدها الريعية. وزاد الطين بلة انها فقدت أكثر من ٢٨٥ ألف نسمة من عدد سكانها بين عامي ٢٠٠٠ و ٢٠١٣، حسب الإحصاء السكاني الأميركي الأخير.
وحقيقة أن بعض المسؤولين فـي المقاطعة أدينوا بتهم الفساد لا يبرر هاجس وسائل الإعلام بتحقيق صيد ثمين من خلال اتهام إدارة فـيكانو بالفساد بالجملة. التدقيق الفـيدرالي والتحقيق المكثف يعني دوماً احتمال إيجاد مخالفات، ولكن لا يمكن تحميل فـيكانو مسؤولية تصرفات كل موظف فـي مقاطعة وين لأنَّ هذا ظلم موصوف وتفكير غير عقلاني.
ونحن مع التحقيقات الاستقصائية الصحفـية لأنها ضرورية جداً لكبح جماح الفساد فـي الإدارات العامة والخاصة حتى ومراقبتها من أجل الصالح العام. فـي الواقع أدى تراجع التحقيقات الصحفـية الجدية إلى منح السياسيين ترخيصاً بالقتل والسلب إذا جاز التعبير. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، عندما أمر الرئيس أوباما عام ٢٠١١ باستخدام طائرة من دون طيار فـي اليمن لقتل المواطن الأميركي من ولاية كولورادو عبد الرحمن العولقي، مر القتل فـي وسائل الاعلام الأميركي مرور الكرام من دون سؤال ولا جواب.
وفـي الـ ٢٠٠٣ جر الرئيس جورج دبليو بوش أميركا إلى حرب غير قانونية وغير اخلاقية ومخالفة للقوانين والانظمة الدولية وغزا العراق ودمره وقتل شعبه من دون أية رقابة أو محاسبة أو معارضة إعلامية تذكر قبل الغزو او بعده.
غير أن حملة وسائل الإعلام ضد فـيكانو اعتمدت الإثارة التي تزيت بزي التحقيق الاستقصائي.
الوسائل الإعلامية وخصوصاً محطات التلفزيون المحلية من خلال تكرارها بث الادعاءات بشأن الفساد وصفقات التقاعد الضخمة لبعض المسؤولين المعينين، والتي كانت بالمناسبة مماثلة للمقاطعات الأخرى التي هي بحجم مقاطعة وين، أمّنَتْ لنفسها نسبة مشاهدات عالية إلاّ انها دمرت بالمقابل سمعة العديد من المسؤولين فـي الإدارة العامة، ولكنها لم تثبت وجود أي فساد حقيقي.
وسائل الإعلام لم تركز على المسؤولين الخمسة الذين أدينوا بتهم الفساد أثناء التحقيق الفـيدرالي، ولا يمكنها ادعاء الفضل فـي كشف جرائمهم المزعومة.
ومع ذلك، فإنّ انتقاداتنا لإرتكابات وسائل الإعلام لا تعفـي فـيكانو وإدارته من الأخطاء السياسية والإدارية أو تبرير أية رعاية زبائنية قد تكون متأصلة فـي حكومة المقاطعة.
إلا أنّ، أسماء رجال ونساء أبرياء جرى تداولها وجرجرتها فـي كل عناوين الصحف مع مزاعم بالسلوك الإجرامي. ففـي واحدة من افتتاحياتها الإخبارية المطعَّمة بالرأي فـي شهر آب (اغسطس) الماضي، ادعت نشرة أخبار القناة السابعة ان فـيكانو كان فـي متناول يد الصحفـيين ويحارب الفساد، إلى أنْ تغيرت ثقافة المقاطعة بعد تعيين عزام الدر فـي منصب نائب الرئيس التنفـيذي فـي نهاية عام ٢٠٠٦. ولكن، لسوء حظ القناة، تلقى الدر رسالة نادرة من المدعي العام الفدرالي فـي شرق ميشيغن باربارا ماكويد فـي الشهر الماضي يبرؤه من كل التهم الموجهة اليه ويبلعه أن التحقيق لم يجد أي انتهاك من قبله للقانون الفـيدرالي. كذلك تمت تبرئة ساحة روبرت فـيكانو الذي قد يكون التحقيق الفـيدرالي والإثارة الإعلامية الجائرة ساهما فـي إخفاقه فـي الإنتخابات بعد ٣٠ عاماً فـي الخدمة العامة.
فـي إطار سعيها للحصول على أعلى نسبة من المشاهدين والقراء، داست وسائل الإعلام الأميركية على المبادىء الإعلامية الرصينة التي كانت تتميز بها فـي السابق بعد فضيحة «ووترغيت» وغيرها ولم تعد تعير أي إهتمام لسمعة الناس وكراماتهم. أميركا الدولة العظمى اصبح إعلامها لا يختلف عن إعلام العالم الثالث وهذا نذير شؤم وسوء!
Leave a Reply