حين تصادفنا الأحداثُ، عبر مسيرةِ حياتِنا، فإنّها يجب أن لا تمرّ مروراً عابراً، حيث أنّها تشكِّلُ عبرةً نستخلصها لننفعَ الآخرين من مدلولاتِها، سأحكي لكم واحدةً من تلك الأحداث التي شهدتُها في حياتي.
كانت في السابعةِ عشر من عمرِها، لأبوَين منفصِلَين، وقد تولّت جدّتُها لأمِّها تربيتها منذ صغَرِها، كانت الجدّةُ هي الملاذ الآمن والصدر الحنون الذي ترتمي بين حناياه، وتحتمي به من قسوةِ الزمن وفضول الآخرين.
الجدّةُ تمتلك وتُدير دكّاناً صغيراً لبيع الحاجيات والبضائع المنزليّة، لتعتاشَ من موردِهِ، هي وحفيدتُها، فيغنيهما عن ذلِّ الحاجةِ ونظرات الشفقة التي لا تريدان أن تواجهاها، وفي إحدى العصاري، بينما كانت الجدّةُ جالسةً على كرسيٍّ خشبيٍّ متهالك، منهكَةَ القوى تتطلّعُ إلى الشارع، فإذا بسيّارةٍ تتوقّفُ أمامَ الدكّان، فأصابتها الدهشةُ والإستفهام، ممّا دفعها إلى الإستفسارِ من القادم الذي كان رجلاً متصابياً يرتدي ثياباً حريريّةً ناصعةً تفوحُ منها رائحةُ أمراءِ النفط، ذا وجهِ مجعّد ترتسم سنواتُ عمرِهِ على جبينِهِ المتغضّن بالخطوطٍ المتدرِّجة المتراصّة.
وقفَ بشموخٍ وكبرياء وعنجهيّة واضحة، ممعِناً نظرَهُ إلى بيتٍ متهالك يكاد يوشك على السقوط، مسقَّف بألواحِ الأخشاب وجذوع النخل وخليطِ الطين، فأشار الرجلُ إلى البيت موجِّهاً سؤالَهُ إلى الجدّة «أهذا بيتُكِ؟»، فأجابتهُ «نعم»، وإذا بتلك الفتاة الجميلة تطلُّ من الداخل لتنضمَّ إلى جدّتِها، ذُهِلَ الرجل بجمالِها الباهر، وبجيدِها البضّ اللامع، وبإنوثتِها الطاغية، فتلعثمَ بالكلام حين سألَ الجدّةَ عن صلةِ القرابةِ بينهما، وحين أجابتهُ بأنّها حفيدتها الوحيدة، صمتَ للحظةٍ ثمّ أردفَ قائلاً لها «ماذا يكون شعوركِ فيما لو جاء اليكما منقِذٌ لكما من هذا الفقرِ المدقع، المخيِّم على حياتكما؟»، وكأنّهُ أراد أن يمسحَ بلمسة حنان على صدر هذه الأسرة التعيسة، ليرسم الفرحةَ والسعادةَ على قلبيهما الطيّبَين، ويداعبُ أحلامَهما البسيطة، فعرضَ الزواجَ من الفتاة قائلاً: «أنا أبحثُ عن زوجةٍ صغيرةِ السنّ، فقيرة الحال، حتّى أستطيع إسعادَها وتقديم كلّ ما يمكِن من أن يُدخِلَ السرور على قلبِها»، وسرعان ما تهلّلَ وجهُ الجدّةِ بالفرح، وطلبتْ منه إعطاءَها الفرصة، لتجتمع بأفرادِ العائلة للمشورةِ وحسمِ الأمر، ولم ينسَ أن يدسَّ بيدِ الجدّةِ رزمةً كبيرةً من النقود الورقيّة- كرشوةٍ- لإقناعِ الجميع بجدوى هذا الزواج.
دبّت الغيرةُ وتفشّى الحسدُ في قلوبِ العديدات من بنات القرية، حيث تخيّلنَ بأنّ العروسةَ ستمشي على سجاجيد الذهب وتنعم بالديباجِ والحرير، وتسكن القصورَ الفارهة.
إنطلقت الزغاريد، وعلِّقت المصابيح وأضيئت الأنوار، وانبسطت أساريرُ الجميع تعبيراً عن الفرحة الغامرة، والخير العميم الذي هبطَ من السماء، حيثُ ربّما سيطالهم جميعاً، لمَ لا وهي ابنة القرية المحبوبة والنابضة بقلوبهم، أمّا الفتاة فكانت تنظر بعين خيالِها إلى قصرٍ منيف يملأ جنباتِهِ الخدمُ والحشم تحيطُ به الحدائقُ الغنّاء كتلك الموصوفة في ألفِ ليلةٍ وليلة، زُفَّتْ إلى أفخمِ الفنادقِ في المدينة، حتّى بدا لها أنّها ملكةٌ متوَّجة كسائرِ الملِكات.
وبعد أن ظهرَتْ علاماتُ الحمل على العروسِ الصغيرة، وأخذتْ تخطّطُ لشراء الملابسِ الجميلة للمولود الجديد، بعد أن طلبتْ من زوجِها مرافقتها إلى السوق، للإطّلاعِ على آخر صيحات الموضة في عالَمِ الأطفال، وبعد أن ابتاعتْ ما أرادتْ، والسعادةُ تغمر قلبَها، عرَجا على أحد المطاعم الفخمة لتناول طعامَ الغداء، وبينما هي تطالع في قائمة الأطعمة الموضوعة على الطاولة، حوّلتْ نظرَها إلى زوجِها فإذا بها ترى ملامحَه وقد بان عليها القلق والإضطراب، واستأذَنَها بضعة دقائق لقضاءِ حاجتِهِ في الحمّام.
طال انتظارُها فقد استبطأتْ عودتَهُ زمناُ يفوق المعتاد، ممّا اضطرّها إلى أن تهرعَ نحو زاويةِ الحمّامات المخصّصة للرجال، ظنّاً منها أنّ مكروهاً قد أصابه، سألت عنه النادلَ القريب من المكان، وهو نفسه الذي أجلسَهما حول الطاولة، فأجابها: «هل هو زوجكِ؟» وعندما ردّتْ عليه بالإيجاب، أخبرَها بأنّهُ استقلّ سيّارةَ أجرة كانت متوقِّفة خارج المطعم، انطلَقَتْ به، فتوارتْ عن الأنظار، بالتأكيد ذُهِلَتْ من أثر الصدمة، وتملّكها القلق، وسيطرَ على حواسِّها الخوف، سألتْ عنهُ في كلِّ مكان، فلم تعثر له على أثر، كأنّما غابَ غيابَ أهلِ القبور.
من هذه الواقعة التي راحت تلك الفتاة البريئة ضحيّةً لأوهام الغِنى، ورغم أنّ الفقر هو الذي أوقعَها بهذه المصيدة، لكن على الإنسان أن يتحقَّقَ من موطيء قدميه قبل الإقدام على اتّخاذِ قرارٍ خطير مثل الذي أوردناه، حتّى لايدفع الثمن الباهضَ لاحقاُ، بعد أن يقع في مصيدة التهلكة، ودون الأخذ بالحسبان، النتائج التي قد تكون ليست غير مُرضِية، وإنّما مُدمِّرة في الكثير من الأحايين.
وكلّ عام وأنتم بخير، وأتمنّى أن تكون السنة الماضية قد ذهبَتْ بهمومها ومآسيها، وأنْ تقبلَ السنةُ القادمة حاملةً للسلام إلى العالَمِ أجمع، وتعمُّ الفرحة والسعادة لتغمر قلوب كلِّ الناس دون استثناء.
Leave a Reply