مع اشتداد الأزمة المالية والاقتصادية .. واستمرار الانقسام السياسي
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يستمر «الحراك» في لبنان للشهر الثاني، وتستمر معه الأزمة المالية–الاقتصادية المتفاقمة، في بلد وصل دينه العام إلى حوالي 90 مليار دولار، مع خدمة فوائد بلغت 5.5 مليار دولار هذا العام، تذهب أرباحاً للمصارف التي صدمت اللبنانيين بإعلان افتقادها للسيولة الكافية لإعطاء المودعين مستحقاتهم. وهذا عملياً أخطر ما يمرّ به اللبنانيون الذين يخسرون يومياً من قيمة ليرتهم، مقابل الدولار، بينما ترتفع الأسعار وتنفد المواد الغذائية الأساسية في ظل صعوبة استيرادها بسبب شحّ العملة الصعبة.
أما سياسياً، فتشخص الأنظار إلى يوم الاثنين القادم، وهو الموعد الذي حدده رئيس الجمهورية ميشال عون لعقد الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس جديد للحكومة، في ظل غموض يكتنف موقف الكتل الرئيسية.
الأزمة الحكومية
مع استمرار الحراك في الساحات وابتعاده نسبياً عن قطع الطرقات، فإن الدعوة للاستشارات النيابية الملزمة التي قد تحمل معها تسمية رئيس وزراء من خارج الطبقة السياسية، هو المهندس سمير الخطيب، أعاد المحتجين إلى سياسة قطع الطرقات التي كانت قد «أحرقت» قبل أيام، اسمَي الوزيرين السابقين محمد الصفدي وبهيج طبارة، اللذين قوبلا باحتجاجات من مناصري رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري الذي تقلصت حظوظه بالعودة إلى رئاسة مجلس الوزراء بسبب تمسكه بشروط وصفت بالتعجيزية، على رأسها تشكيل حكومة «تكنوقراط» من غير السياسيين، بالرغم من أن الدستور اللبناني يركّز السلطة السياسية في البلاد بيد مجلس الوزراء مجتمعاً.
ومع ارتفاع أسهم الخطيب بدعم من أكبر الكتل النيابية («التيار الوطني الحر» و«حزب الله» و«حركة أمل») إلا أن رئيس الوزراء يحتاج إلى تغطية من أكبر كتلة سنية في المجلس النيابي وهي «كتلة المستقبل» برئاسة الحريري الذي نفى تمسكه بالكرسي ولكنه لن يسهّل عملية اختيار البديل.
ودعماً لموقفه، اجتمع رؤساء الحكومة السابقون: نجيب ميقاتي، وفؤاد السنيورة وتمام سلام، مؤكدين تمسكهم بالحريري الذي لم يتوان عن تحريك أنصار «تيار المستقبل» لقطع الطرقات في المناطق التي له نفوذ فيها، من بيروت إلى الشمال مروراً بالبقاع.
فالحريري يريد فرض نفسه رئيساً وحيداً للحكومة وبشروطه التي يرفضها كل من: حركة «أمل» و«التيار الوطني الحر» و«حزب الله»، باعتبارها انقلاباً على إرادة الناخبية وانتهاكاً للدستور الذي ينص على أن صلاحيات مجلس الوزراء، تشمل «وضع السياسيات العامة للدولة في جميع المجالات»، وبالتالي لا بد من تطعيمها بوزراء سياسيين إلى جانب أصحاب الاختصاص.
ولعل أكثر ما يثير الاستغراب في موقف الحريري هو دعوته إلى تجاوز دستور «اتفاق الطائف» بالرغم من أنه أكبر المتمسكين به على الساحة اللبنانية.
واللافت كذلك، أن مطالب المتظاهرين أيضاً فيها انتهاك للدستور، من حيث المطالبة بحكومة غير سياسية (الدستور يتطلب أن تكون الحكومة سياسية)، إلا أن المنتفضين لم يرفعوا حتى الآن أية شعارات مطالبة بتعديل الدستور الذي يرى الخبراء أنه المسؤول الأول عن استشراء الفساد والمحسوبية في لبنان.
الانهيار المالي–الاقتصادي
في ظل انسداد الأفق أمام أي توافق سياسي سواء في السلطة المنقسمة على نفسها، أو في ساحات الحراك الذي يعاني من الفوضى وغياب البرنامج والقيادة، يقترب لبنان من شفير انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق.
فمن جهة، تستمر البنوك بحجب الدولارات وحجز أموال المودعين بذرائع مختلفة، فيما تواصل الليرة نزيفها في سوق الصرافة، حتى بات المواطن يفقد يومياً المزيد من قدرته الشرائية في ظل ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور والرواتب، في حين أقفلت العديد من المؤسسات أبوابها أو صرفت عمالها لتنذر بزيادة كبيرة في معدلات الفقر والبطالة خلال الأشهر المقبلة، دون ظهور أي ملامح لحلحلة الأزمة المالية–الاقتصادية.
المودعون خائفون على مدخراتهم، أما البنوك فتقول إنها غير قادرة على دفع الأموال لأصحابها، واضعة سقفاً للسحوبات، ما بين مئة وثلاثمائة دولار أسبوعياً، وهو ما لم يحصل مع اللبنانيين في خضم الحرب الأهلية والأزمات التي مرّوا بها منذ نصف قرن، باستثناء ما جرى في ثمانينات القرن الماضي، عندما انهار سعر صرف الليرة أمام الدولار في عهد أمين الجميّل. ولكن حتى حينها لم يحدث الانخفاض بهذه السرعة التي نشهدها اليوم حيث هبط سعر الليرة خلال أقل من أسبوعين بحوالي ٣٠ بالمئة مما شكّل صدمة وهلعاً للمواطنين الذين لم تهدأ هواجسهم رغم التطمينات التي صدرت عن مسؤولي البنوك والمصرف المركزي خلال الاجتماعات المالية والاقتصادية التي انعقدت في القصر الجمهوري لإيجاد حلول لا تزال تبدو بعيدة المنال.
الحل الخارجي
الانهيار المالي والاقتصادي الذي يتهدد اللبنانيين مترافقاً مع حالات انتحار ومحاولات انتحار في بعض المناطق، لن يسهل احتواؤه داخلياً في ظل الانقسام السياسي الذي يبدو أنه سيستمر بعد تسمية رئيس الحكومة المقبل. فاللبنانيون –على مرّ تاريخهم الحديث والقديم– اعتادوا على أن تأتي حلول أزماتهم من الخارج في ظل ارتباط معظم القوى المحلية بمشاريع خارجية، بما يشبه الوصاية أو الانتداب أو حتى الاحتلال، لكن الحراك الدبلوماسي، باتجاه لبنان، مازال حتى الآن استطلاعياً، وإن كانت بعض الدول قد أعلنت مواقف واضحة حيال الأزمة اللبنانية.
فقد وصف وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، «الحراك» بأنه تعبير عن رفض اللبنانيين لنفوذ إيران و«حزب الله» في لبنان، أما الدول الأخرى الفاعلة مثل السعودية وإيران فلا تزال مكتفية بالتحركات وراء الكواليس، حيث يعمل كل طرف على توجيه الحراك لتحقيق أهداف سياسية، وهو ما أفصح عنه السفير الأميركي السابق المتخصص بالشأن اللبناني، جيفري فيلتمان، الذي دعا بلاده للاستفادة من الحراك الشعبي ودعمه لطرد نفوذ إيران في لبنان متمثلاً بـ«حزب الله» وسلاحه، وسط مخاوف غربية من الذهاب بعيداً في التضييق على لبنان، مما قد يخلق فراغاً ستسارع دول أخرى على ملئه مثل روسيا والصين، بحيث تتحول موانئ لبنان واحتياطات النفط والغاز فيه، إضافة إلى موقعه الاستراتيجية، إلى ساحة صراع دولي مفتوح.
وفود دولية
الأزمة اللبنانية المتفاقمة منذ استقالة الحكومة، استقطبت العديد من الوفود الدولية التي يبدو أنها اقتصرت حتى الآن على استطلاع الأوضاع الداخلية. أول الواصلين كان رئيس دائرة الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية كريستوف فارتو، وتبعه الموفد البريطاني جنسن هيل، والأميركي ديفيد شينكر، وكل واحد من هؤلاء، جاء بمهمة استطلاعية، لمعرفة طبيعة «الحراك الشعبي»، ومَن هم قادته وبرنامجه، وكيف تتعاطى معه الحكومة في لبنان. ولم يطرح أي منهم حلولاً مكتفين بالتحذير من استخدام العنف ضد المنتفضين في الساحات والشوارع، وبالدعوة إلى تشكيل حكومة جديدة بأسرع وقت ممكن للقيام بالإصلاحات المطلوبة.
هؤلاء الموفدون، الذين لم يقدموا مبادرات للحل اجتمعوا في لقاء ثلاثي انعقد في باريس لبحث الشأن اللبناني الذي يحظى باهتمام خاص من دولهم. ففرنسا «الأم الحنون» لديها شركة «توتال» تعمل للتنقيب عن النفط في مياه لبنان الإقليمية عدا عن المصالح التاريخية لها في لبنان منذ تأسيسها له قبل قرن من الزمن، كما أن لدى بريطانيا وأميركا سياسة موحدة في لبنان والمنطقة، غير أن رؤساء الوفود اختلفوا فيما بينهم حول توصيف الأزمة ومقاربتها. إذ يخشى الفرنسيون من أي انفجار أمني داخل لبنان قد يطال قواتها العاملة ضمن القوات الدولية في الجنوب، كما تسعى فرنسا –داعمة مؤتمر «سيدر» لمساعدة لبنان– إلى إنهاء الأزمة عبر إعادة الحريري إلى رئاسة الحكومة مدعوماً بأموال المانحين والمقرضين لتحريك عجلة الاقتصاد، دون تمسك باريس بمطلب إقصاء القوى السياسية الكبرى من الحكومة، في حين أن بريطانيا وأميركا تريدان حكومة لا وجود لـ«حزب الله» فيها تحت شعار «حكومة تكنوقراط».
وأمام هذا التباين في المواقف تم إرجاء لقاء ثانٍ كان سيعقد بينهم في لندن، بحضور وزير الخارجية الفرنسية جان ليف–لودريان، لكنه تأجّل إلى منتصف كانون الأول الجاري، حيث تعمل فرنسا على توسيع اللقاء عبر ضم المجموعة الدولية للبنان والتي تشمل كلاً من: الصين وألمانيا وإيطاليا وروسيا وبريطانيا وأميركا والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية التي أوفدت الأمين العام المساعد حسام زكي، في زيارة استطلاعية أيضاً.
حتى الآن لم يتلق اللبنانيون أية مبادرة للحل كما اعتادوا منذ انتهاء الحرب الأهلية، سواء عبر «اتفاق الطائف»، أو «اتفاق الدوحة»، أو مؤتمر «سان كلو» في فرنسا عام 2007.
فهل من مبادرة عربية، أو أخرى دولية، لإنقاذ لبنان، وعدم انزلاقه نحو حرب جديدة، مع استمرار التدهور المالي والاقتصادي؟ أم أن الطبخة لم تنضج بعد؟
Leave a Reply