الواحد منا، هنا في المهجر، سواء كانت هجرته إختيارية، مثلي أنا، أو قسراً، كما يدّعي الكثير من النقّاقين أثناء الليل وأثناء النهار، عليه أن يعي ويستوعب أن تركه لبلاده سوف يؤثر حتماً وفي نحو سلبي على أولاده.
وسواء من رضي بالعيش بالغربة وآثرَها على الوطن، أو من يلعن الساعة التي جاءت به إلى بلاد المهجر، سوف يدفع ثمناً باهظاً من إغتراب وابتعاد أولاده وأحفاده عن معتقداته وثقافاته وعاداته. ولا يحق لأي أب أو أم لوم أبنائهم على اندماجهم في البيئة الجديدة، لأنه لا وسيلة أخرى للأبناء كي ينجحوا ويتقدموا في مجتمعهم الجديد.
الكثيرون مثلي ممن تربينا وكبرنا في الوطن الأم، وتكونت شخصيتنا الثقافية والإجتماعية والروحية هناك، لا زلنا نعيش القيم ونمارس العادات التي نشأنا عليها، لا بل نحفظها في قلوبنا وفي أسلوب حياتنا، ربما أكبر من الذين لم يتركوا الوطن وظلوا هناك.
لكن الأمر مختلف جدا بالنسبة لأولادنا وأحفادنا الذين يكبرون أمام أعيننا في الغربة وتنمو لهم جذور وجذوع فيها. رغم شروح الأهل وترديد مقولة إن «هذه البلاد مش بلادنا»، لكن هي كذلك بالنسبة لهم. ديار الإغتراب هي وطنهم وبلدهم أيضاً.
مسألة الإندماج في المجتمع الغربي، بما يحمله من آفات، قد تكون الحقيقة غير السارة لمعظم الأهل، والحقيقة المسؤولة عن كثير من مآسي الإغتراب. وبين فترة وأخرى نسمع بمأساة الأب الشرقي الذي حاول أو قتل إبنته التي ولدت في أميركا، أو جاءت صغيرة، لأنها تتبع في حياتها المقاييس الأخلاقية المنتشرة في أميركا لا في بيت أبيها، ونشعر بالأسف بمأساة الأهل عندما يجهر الإبن بأن حياة أهله وعاداتهم المتخلّفة قد تجاوزها ولا تعنيه، فيصمّ أذنيه عن نصائح أهله بعدم الاقتران بفتاة أجنبية تعيش على النمط الغربي، وتتصرف بحرية مستفزة. لا يبالي الإبن ويؤكد أنه والفتاة شخصان بالغان، يحترمان بعضهما البعض وكل واحد منهما حرّ في أفكاره وآرائه وممارساته، وسيربيان أطفالهما في جو صحي وديمقراطي يكفل لهم إختيار ما يرونه ملائماً من معتقدات أو دين وعادات وأفكار.
أحياناً ينجح الزواج وفي أحيان أخرى تكذّب الأيام الأحلام الجميلة، ويدفع الأجداد والأحفاد ثمن المأساة.
والحق إن المأساة بدأت منذ أعوام طويلة يوم اتخذ الأب قراره بالهجرة، وتوهّم أن أولاده سيظلّون عرباً وشرقيين لمجرد أنه هو كذلك. ليس لأحد القدرة على اختيار الثروة والأمان لأولاده وأحفاده في الغربة، وأن يلغي ويبعد عن حياتهم الأسلوب الثقافي والإجتماعي للوطن البديل الذي أنشأهم فيه. بالتالي لا يحق له لوم والديه، أو لعن الساعة التي أوصلته إلى المهجر. فمن أين القدرة لأحد أن يربي ابنته على القيم الشرقية وهي التي ولدت ونشأت في ديربورن مثلاً؟
من جهة أخرى، أكبر لوعة للأهل هنا، هي عدم إتقان الأولاد والأحفاد اللغة العربية بالرغم من حرصم على تعليمهم لغتهم الأم. فالأولاد يتحدثون ويقرأون اللغة الإنكليزية، لغة المناخ العام الذي يغلب جهود الأهل الفردية. أنا أقدم مثلاً حياً على ذلك؛ أولادي وأولاد إخوتي وأبناء أقاربي الكثيرون لا يقرأون ما أكتب بالعربية. قد يزعجني ذلك، لكن من الظلم الشنيع أن أتوقع منهم ذلك في أميركا أو أطالبهم وأجبرهم عليه أو أسبب لهم شعوراً بالذنب إذا لم يفعلوا.
Leave a Reply