محمد العزير
يحق لأي متابع عاقل لردود فعل العرب الأميركيين على السيول التي تسببت بها الأمطار مؤخراً، في مدينتي ديربورن وديربورن هايتس، أن يخطر على باله فوراً المثل الشعبي المصري المأثور والمعبّر «عايزين جنازة يشبعوا فيها لطم». يخال من يسمع الأخبار أو يتابع التصريحات أو يقرأ التغريدات والمداخلات على وسائل التواصل الاجتماعي، أن الجالية فاجأها يوم الحشر وأن القيامة على وشك القيام، أو أن الطبيعة استفردت بهاتين المدينتين المعروفتين بالكثافة السكانية لذوي الأصول العربية فيهما في مشهد توراتي من حكايات انتقام الرب من عباده.
وصل صراخ اهل المدينتين بسرعة ولهفة إلى الأوطان الأم، التي يعاني معظمها ويلات الحروب والفلتان والفتن والانهيارات الاقتصادية والمعيشية، إلى درجة دفعت المقيمين غصباً عنهم هناك إلى الاتصال بالمهاجرين الذين «تقطعت بهم السبل… وأصابهم الضر» في أميركا ليطمئنوا عنهم، ولم يقتصر القلق على سكان ديربورن أو ولاية ميشيغن بل شمل ولايات أميركية ومقاطعات كندية أخرى، في ظل سهولة متابعة الأخبار الصحيحة أو المبالغ فيها، وجرّاء استسهال تضخيم الأمور والندب والولولة. ماذا جرى؟ ما الدافع إلى هذه الهستيريا شبه الجماعية؟ ما المطلوب من تحويل حدث طبيعي شبه معتاد إلى كارثة ترقى إلى فيضانات بنغلادش أو زلازل إيران؟ وما هذا السباق إلى التبشير بالخراب؟
ما حصل في منطقة جنوب شرقي ميشيغن، وهي الأكثر كثافة سكانية في الولاية، حالة موسمية تحصل كل عام. أمطار صيفية تتفاوت معدلات تساقطها السريع بين بوصتين و10 بوصات حسب المعطيات المناخية. لم تقتصر الأمطار والسيول التي تسببت بها على المدينتين بل شملت مدينة ديترويت وكل مقاطعة وين، ومقاطعتي ماكومب وأوكلاند وتخوم واشطنو. وككل مدن العالم الحديثة تتغلب الطبيعة بظواهرها على البنى التحتية التي ينبغي أن تعمل في ظروف طبيعية وتعجز عن التلبية في الحالات الاستثنائية التي تجود بها الطبيعة من أمطار غزيرة أو عواصف أو زلازل أو أعاصير. والذي يعيش في أميركا يشاهد كل هذه الظواهر كل عام، لذلك يسأل المتابع ماذا لو ضربت عاصفة هوجاء مدينتي الكثافة العربية في ميشيغن كما يحصل لولايات أميركا حول خليج المكسيك وساحل الأطلسي أو إعصار مما يشهده وادي الأعاصير الذي يضم عدة ولايات جنوبية؟
تقول جملة في إعلان قديم لشركة تسويق في معرض تشجيعه الشركات على التعامل معه «نحوّل همسكم إلى صراخ». والسؤال الذي يطرح نفسه في مجتمعنا العربي الأميركي هو: لماذا نحوّل الهمس إلى صراخ في كل شيء. تغريدة على «تويتر» تتحول بين ليلة وضحاها إلى فتنة مذهبية، كلمة طائشة من موظف طائش في شركة إلى عربي أميركي من مذهب آخر أو قطر آخر تهدد باستعادة الانقسام القيسي اليمني وحرب البسوس، خلاف رومانسي بين طالبين مراهقين على ود فتاة يستدعي استنفار الفعاليات والأعيان لمنع إراقة الدماء. ما هذا الانفعال والافتعال والنزق وما هذه القدرة الفائقة على التفجع؟ كأننا في مجتمع يحتاج إلى خط ساخن ومراكز تدخل سريع واجتماعات مفتوحة حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة في أية لحظة ولأي سبب.
أمطرت بغزارة كما يحدث كل صيف، صح. البيوت في ميشيغن تقوم على أساس اسمنتي عميق يتحول إلى طابق تحت الأرض، صح. معظم العرب الأميركيين وبسبب حجم العائلة الكبير عموماً يحولون تلك المساحة إلى غرف سكن مفروشة مع مطابخ وأدوات كهربائية، صح. عندما تغمر السيول الطرقات وتعجز قنوات صرف مياه المطر عن استيعابها، خصوصاً في الشتوة الأولى حيث تسد النفايات الصلبة والأوراق والنفايات المنتشرة على الطرقات فتحات أنفاق الصرف المائي، ترتد مياه الأمطار عكسياً وتنفذ عبر المسارب المنزلية إلى الطابق السفلي، صح. هل حدث ذلك قبل الآن؟ نعم. هل حصل في المدينتين وبهذا الشكل؟ نعم؛ في ديربورن عام 2014 وفي ديربورن هايتس عام 2018. هل يحصل أكثر من ذلك في أميركا عموماً؟ نعم. السيول في ولاية إيلينوي المجاورة تغمر مساحات تفوق مساحة لبنان كله.
الملفت في الأمر أن حالة الفجيعة حصلت بينما كان المختصون والمعنيون يقومون بأكثر ما يمكنهم فعله. حاكمة الولاية أعلنت حالة الطوارئ وصنفت المدن المتأثرة بالعاصفة «مناطق منكوبة»، وقامت مع مسؤولين إقليميين ومحليين بجولات متواصلة. المسؤولون المحليون فتحوا مكاتبهم وهواتفهم لاستقبال المتضررين وشكاويهم. وسائل الإعلام واكبت التطورات منذ لحظاتها الأولى، وهنا لا بد من التنويه بالجهد الكبير الذي بذله الزملاء في «صدى الوطن» لتغطية الوضع ميدانياً وتزويد الناس بالإرشادات والأرقام وآخر البلاغات. بعض المؤسسات الاجتماعية والدينية إلى جانب أبناء وبنات الجالية الذين تنادوا إلى تشكيل فرق تطوع وباشروا في مساعدة الأكثر عرضة للضرر، أثبتوا وجودهم وأطلقوا حملات مساعدة فورية وتوزيع مساعدات حيوية للتقليل من أثر السيول.
مع ذلك انتشرت في جو الفجيعة ظاهرة معيبة مثلثة الأضلاع. أول الأضلاع أن بعض النصابين المعروفين سارع إلى تشجيع الناس المتضررين وغير المتضررين على المبالغة في تقدير خسائرهم أو حتى إلى اختراع خسائر من خلال اقتراض بعض العفش شبه التالف من أقرباء وأصدقاء لتحويله إلى خسائر محققة. وظهرت بشكل مفاجئ ورشة بيع بوليصات تأمين بـ«مفعول رجعي»، معظمها غير صالح للتحصيل (لا أدري ما الذي سيحصل عندما يكتشف أصحاب العلاقة ذلك!).
الضلع الثاني انتهازي بامتياز أيضاً، وتمثل في مسارعة بعض متسلقي السياسة وذوي شهوة الشهرة الطامحين إلى مناصب ليسوا مؤهلين لها، إلى الطعن بالمسؤولين العرب الأميركيين المنتخبين وتحميلهم مسؤولية البنى التحتية ولو استطاعوا لألقوا عليهم تهمة التواطؤ مع المناخ لتدبير العاصفة والتسبب بالسيول، مستخدمين أرقاماً ووقائع وهمية، الغاية منها تشويه سمعة المسؤولين العرب الأميركيين المنتخبين، وكل حسب رغباته.
أما الضلع الثالث وهو الأسوأ على الإطلاق ولم ينل حظه من الاهتمام، فهو نبش النغمة العنصرية «البيضاء» القديمة، والتي سادت وروّج لها بعض «أعيان» النخب العربية الأميركية خصوصاً من ذوي الأصول اللبنانية في أوج الانطلاقة المؤسسية للعرب الأميركيين مطلع ثمانينات القرن الماضي، والتي تعبّر ليس فقط عن الرغبة في جلد الذات وإنما تنضح بكره الذات، والتي تقول متى وصل العرب إلى موقع المسؤولية سيجلبون معهم الخراب والفشل وسيتراجع مستوى مدينة ديربورن حصراً، لأن الأميركي الأبيض أكفأ من العربي في إدارة الأمور والأموال العامة.
من يراجع صفحات التواصل الاجتماعي يعثر بسهولة فائقة على مثل هذه الترهات الداعية إلى عدم التصويت للمرشحين العرب الأميركيين، أو الأكثر صراحة منها دعوة المرشحين أنفسهم للانسحاب. ومن محاسن الصدف أن تأتي العاصفة في موسم انتخابات وأن يكون معظم المرشحين للحكومة المحلية من أبناء وبنات الجالية وغالبيتهم من أصحاب الأهلية والكفاءة والخبرة.
ما يهوّن الأمر على المخضرمين من العرب الأميركيين الحريصين فعلاً على مصلحة مجتمعهم أن تاريخ ديربورن وشقيقتها شهد ما هو أسوأ على أيدي من تنطحوا للزعامة التقليدية العائلية منها، أو حديثة النعمة الرابطة بين الثراء والنفوذ. هذه مرحلة تخطاها العرب الأميركيون في كل مجال وفي كل محطة ولن تقوم لها قائمة في أيامنا هذه، لكن إعادة نبشها أمر ملفت ومثير ومقرف.
كلمة أخيرة للغارقين في لعبة التهويل.. الآن بدأ موسم الأعاصير شاهدوا ماذا سيحدث بين فلوريدا وتكساس ومن لويزيانا إلى إيلينوي، واحصوا عدد المسؤولين العرب الأميركيين عن مدن تدمر أو تغرق كاملة… وارحمونا.
Leave a Reply