غرناطة المغدورة: حتى لا يعيد التاريخ نفسه
إنّ ما يحدث في أيامنا هذه ليس بعيدا عمّا حدث سابقاً في تاريخنا العربي في القرون الوسطى، وتحديداً في الاندلس التي استقر فيها العرب بداية من سنة 92 هجرية. فالهجمة التي يشنها في أيامنا هذه بعض القبائل العربية -والتي تسمّى مجازاً دولاً- على سوريا لا تبعد كثيراً عمّا عاشته مدينة غرناطة العربية في بلاد الأندلس. فلقد كانت غرناطة عاصمة دولة بني الأحمر والقلعة العربية الأخيرة التي صمدت أمام هجمات الإسبان في عهد تهالكت فيه الممالك العربية، وتهاوت مدنها الواحدة تلو الأخرى في يد ملوك الإسبان والعجم بعد أن تقاتل ملوك الطوائف العرب وتآمروا على بعضهم البعض ليتشتّتوا وتستفرد بهم دولة الأعاجم وهم منقسمين متناحرين.
بلاد الأندلس التي عاش فيها العرب على مدى ثمانية قرون وأسّسوا فيها حضارة مزدهرة، إنفرط عقدها بعد أن هرول بعض ملوكها إلى الإستنجاد بملوك الإسبان وكشفوا عورات دولا كان من المفروض أنّها شقيقة، لتنتهي المأساة بسقوط غرناطة، وليُنكّل الإسبان بالجميع، فحتى الذين “تعاونوا” معهم من العرب تعرضوا للتعذيب والقتل مع ملايين من العرب بقرارات من محاكم التفتيش التي إنتصبت لمحاكمة مواطني الأندلس من العرب والمسلمين وبذلك إنهار آخر حكم عربي في بلاد الأندلس في 21 محرم سنة 897 هـجرية، وما أشبه الأمس باليوم. فما عانته غرناطة منذ عقود قد تعانيه دمشق اليوم.
ورغم التحذير المتواصل من كل عقلاء العرب من كون الحرب على سوريا هي إختيار كارثي بكل المقاييس، تُواصل دول الخليج الدفع بالأمور إلى خيار تأجيج الصراع الذي سيحرق الجميع، إنّه “غباء سياسي” مُتجذّر ومُستفحل، بل يكاد يعتبر “ماركة مسجلة” لبعض العرب الذين يحق لهم تسجيله كملكية فكرية رغم أنّهم يظنّون أنّهم يُحسنون صنعاً، إذا على من تقرأ زابورك ياداوود؟
لا يمكن إلاّ أن نقول كما قال المثل العربي: يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم.
مأزق أمراء الحرب: وحدة الشعب أمامهم والفيتو ورائهم.
بعد أن أعيت الحيل كل الراغبين من أمراء الحرب في إشعال حريق بسوريا مهما كان الثمن، وبعد أن فشلوا في كلّ محاولاتهم داخلياً، هرولوا من جديد إلى الأمم المتحدة في محاولة لإدانة سوريا كمقدمة لشنّ الحرب على أهلها، نعم على أهلها الذين رغم العقوبات والقتل المُمنهج والتخريب الذي تتعرض له بلادهم لازالوا صامدين لم تتصدّع جبهتم الداخلية، مما أثار حفيظة النافخين في جمر الفتنة لمزيد الإنتقام منهم كونهم لم ينضموا للثورة المغدورة التي سلّحوها وموّلوها ليتفرجوا في الأخير على أهلها وهم يدمّرون بعضهم البعض، لكن الحيلة الضالة المُضللة لم تنطلِ ولم ينخرط فيها إلاّ من قامت أو ازدهرت لهم تجارة خلال الحرب، لكن أغلب شعب سوريا لم يكن مصاباً بغباء بعض العرب، إذ كشف كل المخططات والسناريوهات الداخلية وتصدى لها.
لقد كان مُسوّغ الذهاب بالملف السوري الى التدويل هو طلب مساندة مجلس الأمن الدولي لإجبار سوريا على تنفيذ المبادرة الخليجية التي وقع تنفيذها في اليمن بعد أن رفض النظام السوري تنفيذها لأنّ فيها مساس بسيادته. طلب وزير قطر السرعة في إستصدار القرار المُلزم لايقاف قتل المدنيين (يا حنيّن إنت)، كما لاحظ نفس الوزير أن الشعب اضطر لحمل السلاح للدفاع عن نفسه وهنا نسأله من أين جاء السلاح يا ناصح؟ هل نبت مع الفاصوليا والفول في مزارع سوريا أم نزل مع المطر المنهمر من السماء؟ الجواب، طبعاً، لا.. إنّها الأموال المشبوهة التي بذلت لأهداف مشبوهة، هي التي اشترته وأدخلته.
الأمر أصبح واضحاً ولا يتطلب مزيداً من التوضيح.
هناك سؤال آخر لا يزال يتردد على ألسنة كل الملاحظين وهو هل أنّ وزير قطر استقال من مهامه في بلاده ليعمل وزيرا مفوضا فوق العادة في خدمة سوريا؟ والسؤال مردّه أن حمد، الوزير، أصبح ينام ويفيق على موضوع سوريا، أليس له مهام يضطلع بها وهو الوزير الأول في بلاده؟ الحقيقة فوجئنا فعلا بكل هذا الحب الذي يكنونه لسوريا والخوف على أهلها. فعلاً، ما قصرت يا طويل العمر وقوفك مع شعب سوريا معناه (انت وابن عمك على الغريب) عفوا قصدت “الإتجاه المعاكس” أي أنتم والغريب على ابن عمكم. “يا عمّ بلا ابن عمّ بلا بطيخ” على رأي فيصل القاسم، “ما غريب الا الشيطان، موهيك تسلم لي شواربك؟ طبعا هيك ونص.. وَلَوْ”.
لم يَعْلَقْ “احباب سوريا” في مأزق توحّد الجبهة الداخلية السورية فقط بل إنّ ذهابهم الى الأمم المتحدة لم يكن قطُّ مجرد نزهة، فالأمور هناك محكومة بتوازنات أصحاب “الفيتو” وبمصالحهم الاستراتيجية، يُقرّر فيها الكبار وليس على الصغار من قومنا إلاّ التمسّح والتذلل على الأعتاب وانتظار ما سيكون من الأمر، لأن الصغار حتى وإن بذلوا الأموال وناحُوا ولطمُوا وجوههم كان كلامهم دوما في النافخات زمرا، أي كلام كثرته مثل قلته، فالأمم المتحدة ليست الجامعة العربية التي اصبحت سوقا لبيع وشراء الذمم بعد ان صار فيها “الفاضي عامل قاضي”.
لقد اصطدمت إرادة الحرب والتدويل دوما برفض روسي-صيني حيث كانا يدعوان الى الحوار والتفاوض السلمي وبأن لا سبيل لحل الأزمة السورية إلاّ عبر تلك الوسائل وما عداها مرفوض، وقد انضم الى هذا التوجه كل من جنوب افريقيا والهند ورغم حديث المعسكر المناوىء لسوريا عن عدم الرغبة في شن الحرب عليها ، إلاّ أنّ ذلك ليس إلاّ تمويها، لأنّ الغاية الحقيقية من رفع الملف هو اظهار سوريا في مظهر الرافضة للحل العربي المتمثل في المشروع الخليجي الذي وقع تنفيذه في اليمن، والذي وجد رفضاً قاطعاً من الحكومة السورية كونه يُملي عليها شروط تعيين من يدير دفة الدولة فعلياً في سوريا ويجرد الرئيس من صلاحياته الفعلية، كما انه لا يحدد اطراف الحوار وهو فخ تفطّن له الجميع ولن يُكتب له النجاح كون هدفه هو السعي بأي شكل لايجاد حجة ومبرر لشن الحرب على سوريا بحجة رفض المبادرة.
لقد لام البعض الصين وخاصة روسيا على إصطفافها الى جانب سوريا، معتبرين موقف الدولتين العظمتين غير اخلاقي ومبني على المصلحة، نعم قد تكون لروسيا مصالح وماذا في ذلك؟ أليس العلاقات بين الدول مبنية على المصالح المتبادلة؟ وبماذا نفسّر سَفر وزيري خارجية كل من فرنسا وبريطانيا الى نيويورك لحضور جلسة تقديم “الطلب العربي” الى مجلس الأمن، هل هو من أجل سواد عيون العرب أو حباً بالشعب السوري ؟ والجواب، طبعاً، لا. ففرنسا وبريطانيا تسعيان مع الدول الخليجية التابعة الى ضرب استقرار سوريا ضمن اجندة شريرة تستهدف إعادة ترتيب المنطقة برمتها وفق مصالحهم، وليس أمام التُبَّعْ العرب إلاّ اللهث وراء البروز و”الزعامة” الفارغة لأنّ “في الاخير، العروسة للعريس والجري للمتاعيس”.
إذا ماذا ننتظر من بعض شيوخنا؟ الجواب، طبعاً، لا شيء، لأنّ الذي تعود على الزحف، لا يستطيع الطيران.
لقد سلمنا أمرنا لله.. لأنه لا يصلح العطّار ما أفسده الدهر.
الرهانات: حرب استنزاف اقتصادية ونفسية وإعلامية
بعد أن استنفذت أغلب الأوراق في الازمة السورية، ماذا بقي للمراهنين على الحرب من اوراق لإستعمالها في السعي الى تدميرها؟
يجمع أغلب الملاحظين أنه لم يبق من خيار إلاّ استمرار حرب الإستنزاف الإقتصادية عبر العمليات التخريبية للمنشآت الحيوية كأنابيب الغاز والبترول والكهرباء وسكك الحديد حتى تتعسّر حياة الشعب الذي قد تضعه مشاكله الحياتية في مواجهة مع الدولة الى جانب استهداف المؤسسات التعليمية حتى تتوقف عن العمل وبقاء الطلبة في حالة عطالة قد تؤدي الى حالة تمرد في صفوفهم، كما ستتواصل الحرب النفسية بواسطة نفس المؤسسات الإعلامية التي حاولت ولا تزال ملء حياة السوريين بالإحباط، وذلك عبر الحديث عن الإنشقاقات العسكرية والإنتصارات التي يحققها “الجيش الحر” وتحريره للمدن، كما ستعمل على استمرار تدفق الصور المؤثرة على الطريقة الهتشكوكية في أفلام مفبركة في أغلبها.
لقد إستطاعت المؤسسات الحكومية السورية أن تمتصّ كل الضربات التي للأسف الشديد كانت على أغلبها أيادٍ خارجية، لأننا لم نعلم على مدى تاريخ شعب بلاد الشام أنّه شعب دموي، بل على العكس عُرف على أنه شعب مسالم متضامن غير سفّاك للدماء، شعب قدم للإنسانية حضارات مزدهرة، ولم تشهد سوريا رغم تنوعها عرقيا ودينيا وطائفيا حروبا ولا فتن بسبب التركيبة الإثنية أو الدينية للمجتمع.
ليعلم كل السوريين أنّ كثير من العرب وغير العرب يقفون ضد الحرب، لأنّ ذلك في مصلحة كل السوريين، وأنّه لا يمكن لأيّ إنسان يتمنى الخير لتلك البلاد إلاّ أن يُدين الحروب التي تشن وتُحضّر ضدها، ليس فقط لأنّ الحروب بشعة، بل لأنّ الحروب بين الأهل يكون الجميع فيها خاسرين دائماً، كما أننا نسأل جميع الذي يتمنون تدخل عسكري ضد سوريا أن يجيبون على سؤال واحد: لماذا كل هذا الإهتمام بالشأن السوري؟ مئات القنوات التلفزيونية تبث على مدار الساعة، مواقع الكترونية لا تحصى ولا تعد تبث الأخبار كل دقيقة، والسؤال الاكثر إلحاحا هو من أين تأتي كل هذه الأسلحة الأكثر تطورا وفتكا والمتدفقة عبر حدود سوريا دون توقف، ومن يدفع ثمنها وثمن إقامة وتنقل ومصاريف المعارضة التي تقدر بالمليارات؟ وما هو المطلوب مقابل كل ذلك؟ الجواب هو: لا يُمكن أن تُقدّم كل هذه الأموال الطائلة إلاّ إذا كان الصيد ثميناً وهو ثمين فعلاً، إنه يتمثّل في كسر آخر بوابة أمام مشروع تعميم اللبننة أي تقسيم المنطقة على أساس طائفي وديني والذي سيخلق شعوبا متناحرة متحاربة أبداً ضمن مشروع “الفوضى الخنّاقة”، والتي معها تختنق كل أحلام شعوب المنطقة في ان تعيش حياة سياسية وإجتماعية موحدة، آمنة وديمقراطية.
فهل وعينا الدرس أم يمُوت الزمّار وإيدُو تلعب؟
Leave a Reply