بيروت –
الانتخابات البلدية استحقاق إنمائي، تحاول السياسة أن تدخل عليه من باب ما تتمتع به الأحزاب والقوى السياسية من حضور وامتداد شعبي في المدن والقرى، كما هو حال التعاطي مع القطاعات المهنية من نقابات إلى اتحادات عمالية، وروابط ومجالس طلابية، لذلك بدأت تأخذ هذا الحجم من الاهتمام السياسي، الذي بدأ يقفز على الدور العائلي، الذي ما زال مؤثراً الى حدّ ما في هذه الانتخابات، لكن مع تطور العمل البلدي، ونمو النشاط الحزبي، فإن الجانب السياسي سيتقدم في هذا الإطار لجهة التنافس على برامج إنمائية خدماتية، وسيزداد إذا تطور الوضع، وأقر قانون اللامركزية الإدارية، وأعطيت البلديات صلاحيات، وبتنا أمام مجالس محلية تسعى إلى تحقيق الإنماء المتوازن، وهذا التأخير في تحقيق هذين البندين الإصلاحيين من اتفاق الطائف، كان لهما تأثيرهما السلبي على تطور المجتمع المدني والبلدي.
فإذا تم تطوير قانون البلديات، والذي يجب أن يقر معه قانون اللامركزية الإدارية، فإن الانتخابات البلدية أو المحلية سوف تكتسب أهمية أكبر، وربما أهم من الانتخابات النيابية، التي عليها أن تعود إلى دورها الأساسي وعملها الدستوري الفعلي في التشريع وسن القوانين وتحديثها وتطويرها، إضافة إلى الرقابة على السلطة التنفيذية، والمساءلة والمحاسبة للوزراء، فتترونق النيابة، ويشعر النائب أنه يمثل الأمة جمعاء قولاً وفعلاً، وليس معقب معاملات أو فاعل خير، وحاضر فقط في الواجبات الاجتماعية، على أهمية التواصل مع المواطنين.
فوزير الداخلية زياد بارود، الآتي إلى الوزارة من المجتمع المدني، قدم مشروعاً للبلديات فيه ومضات إصلاحية، على قدر ما يستطيع أن يقدمه في مجتمع أهلي مركب طائفياً ومذهبياً، حيث تقدم ببنود إصلاحية تعتمد النسبية في البلديات الكبرى، وترفع من المستوى التعليمي في اختيار رئيس البلدية ونائبه إلى حيازة شهادة جامعية، على أن ينتخبا مباشرة من الشعب، ويخفض مدة ولاية المجالس البلدية من ست إلى خمس سنوات.
هذه البنود الإصلاحية ووجهت برفض من جهات مختلفة، منها من رفض النسبية، والبعض تحفظ على الشهادة العلمية، والبعض الآخر خاف من انتخاب رئيس البلدية من الشعب، بحيث يصبح في منطقته أقوى من النائب، فجاءت الاعتراضات مصلحية فئوية، وقد يكون بعضها صحيحاً لجهة كيف يطلب من المرشح لرئاسة البلدية أن يكون حائزاً على شهادة جامعية، ولا تطلب من المرشح لرئاسة الجمهورية أو الانتخابات النيابية؟
إلا أن ذلك لا يمنع التغيير من مكان ما، ولا يجوز أن تبقى القوانين التي لها طابع تمثيلي، تحكمها الاعتبارات الطائفية والمذهبية والفئوية، وترسم على قياس زعامات واقطاعات وأحزاب جهوية، دون النظر إلى مصلحة المجتمع وتقدمه، حيث تسقط مشاريع الإصلاح وبرامج التغيير، عند أول طرح لها، كما في دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، التي مر عشرون عاماً عليها ولم تبصر النور، منذ أن تم انتخاب أول مجلس نيابي مناصفة بين المسيحيين والمسلمين بعد اتفاق الطائف في العام 1992، إذ كانت الدعوات إلى تأليفها تواجه برفض مسيحي عموماً وماروني خصوصاً، وربط وجود الطائفية السياسية بوجود لبنان، ورفض أي تغيير في تركيبة نظامه السياسي الطائفي الذي ارتضاه اللبنانيون، من خلال ميثاق عام 1943، وصيغته في العيش المشترك، التي كانت لتنظيم مشاركة الطوائف في الحكم، وما يجب تطويره ليس إلغاء الطائفية السياسية، بل قوننتها، وقد ارتضى الموارنة في اتفاق الطائف بتعديل في الدستور لصالح نزع بعض الصلاحيات من رئاسة الجمهورية ووضعها في إطار المؤسسات كما في اختيار رئيس الحكومة بالاستشارات النيابية الملزمة، وفي اتخاذ قرارات داخل مجلس الوزراء، وما هي الأصوات التي بحاجة إليها، وعنوان الموضوع المطروح على التصويت.
لذلك تتعثر عملية الإصلاح، من خلال الوقوف عند مواضيع حساسة، يجري النظر إليها من منظار الحسابات الطائفية، مثل موضوع خفض سن الاقتراع من 21 الى 18 سنة، فتم ربطه فوراً من قبل أطراف مسيحية بالأرقام، واشترطت الموافقة عليه أن يجري معه إقرار منح اللبنانيين المغتربين حق الاقتراع، ووضع آلية ليصوتوا في سفارات لبنان في الخارج، وحق استعادة الجنسية، وكل ذلك تحت عنوان أن خفض سن الاقتراع للشباب ليتسنى لهم المشاركة في العملية السياسية وممارسة الديمقراطية، سيزيد عدد المسلمين على المسيحيين، ولا بدّ من العودة إلى الاحتياط المسيحي في الاغتراب وإدخالهم على لوائح الشطب، وهم أساسا موجودون عليها للذين لم يفقدوا جنسيتهم بالاهمال، وقد حضر الآلاف منهم وشاركوا في الانتخابات النيابية الأخيرة، لا سيما من غادروا في العقود الأخيرة ومن كل الطوائف والمذاهب.
فكل عملية إصلاحية، تواجه بالرفض، فإحصاء عدد السكان يتم التخوف منه كي لا يكشف عدد المنتمين الى الطوائف والمذاهب، لأنه وبسبب النظام الطائفي، ستطالب الطائفة الأكثر عدداً أن تكون السلطة لها، وهو ما سمي في مرحلة ما بـ”الديمقراطية العددية” والتي طرحها رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى المرحوم الشيخ محمد شمس الدين، وتراجع عنها بعد سنوات، لتتقدم بعد الطائف الديمقراطية التوافقية لتطبيق ما ورد في مقدمة الدستور، أن لا شرعية لأية سلطة لا تلتزم صيغة العيش المشترك، وهذا ما أفضى إلى اتفاق الدوحة بعد أزمة سياسية ودستورية، أقر فيه، مبدأ أو العرف الذي يضمن الثلث في الحكومة، أو تطبيق المثالثة، وكلها تدابير أو أعراف وإجراءات مؤقتة، طالما إن المادة 95 من الدستور، نصت على أن الطائفية هي حالة مؤقتة، وستكون ساعة يقظة وطنية يوم التخلص منها، وقد صيغ هذا الكلام في العام 1943، يوم نال لبنان استقلاله، لكن ساعة قيامة لبنان لم تحن للتخلص من الطائفية التي هي علة النظام ووبالاً على اللبنانيين الذين ابتلوا فيها، وتسببت بأزمات وحروب أهلية، فجاء اتفاق الطائف ليرسم خارطة طريق للخروج منها، تبدأ بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغائها، عبر وضع خطط مرحلية لذلك، ولم يقل بإلغائها الفوري، لأن من وضع النص كان يدرك المعوقات لا سيما الطائفية، التي قد تؤخر الخروج الفوري من هذا المرض الاجتماعي الذي يفتك بالجسد اللبناني، لكن المفاجأة كانت من بعض القوى السياسية التي عادت تؤكد على ضرورة البقاء على الطائفية السياسية، لأنها سبب وجود لبنان، والذي انطلاقاً منه حصل احتضان حالة مسيحية ومارونية تحديداً، وكأن لبنان أنشئ لطائفة معينة.
فمثل هذا التفكير وطرح مشاريع سياسية، وربط إلغاء الطائفية بالدعوة الى “الفدرالية” كما أعلن سامي الجميل، وهذا أمر خطير، يعيد لبنان إلى مرحلة ما قبل اتفاق الطائف ونسفه، مما يعني العودة إلى المرحلة التي تسببت بالحرب الأهلية، التي كان موضوع إلغاء الطائفية أحد العناوين التي أخذ الصراع السياسي نحو إصلاح النظام، إلى تصادم عسكري أدخل عليه العامل الفلسطيني بوجوده المسلح، مما زاد الأمر تعقيداً، وطرح في حينه موضوع تقسيم لبنان مقابل أي تغيير في النظام السياسي، حيث امتدت الحرب إلى نحو 15 سنة، انتهت إلى إقرار إصلاحات بعد عدة طاولات حوار، وتقديم أوراق إصلاحية، وأفضت كلها إلى اتفاق الطائف الذي أقر بنوداً إصلاحية، وأكد في أغلبها على ضرورة الخروج من الحالة الطائفية، التي تتصاعد باتجاه الحالة المذهبية، التي لم يعرفها اللبنانيون إلا قبل سنوات، ومع تصاعد الصراع السني – الشيعي، الذي أيقظه الاحتلال الاميركي للعراق، وعززه المشروع الاميركي “للشرق الأوسط الجديد” الذي أعده الرئيس السابق جورج بوش، وهو تقسيم جديد للمنطقة، بعد اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916، التي مهدت الى وعد بلفور، الذي أقام فيما بعد الكيان الصهيوني، والتقسيم الاميركي الجديد، هو وعد لقيام “الدولة اليهودية” عبر “وعد بوش” بأن تكون خالية من الفلسطينيين.
وتزايد الصراعات المذهبية والطائفية والعرقية التي تمتد من باكستان إلى أفغانستان والعراق واليمن والسودان وصولاً إلى شرق آسيا، وامتداداً إلى أفريقيا وبعض المغرب العربي، فإن الحاجة إلى تحرير النظام السياسي من الطائفية، بات ضرورة وطنية لحماية وحدة لبنان، ووقف كل الأفكار التقسيمية التي تتوافق مع الطروحات الأميركية والإسرائيلية، والمصلحة اللبنانية تقتضي البدء بحوار عبر هيئة دستورية، للعبور من الحالة الطائفية إلى الدولة المدنية، أو إلى نظام مدني، لا مكان فيه لطائفية سياسية تميّز بين اللبنانيين، وتتعارض مع حقوق الإنسان ونص الدستور اللبناني، الذي لا يفرق بين لبناني وآخر، فلماذا إذن التمسك بالطائفية السياسية؟
ولبنان بحاجة الى قانون انتخابات بلدية حديث وعصري، يؤسس للامركزية إدارية، ويقدم الكفاءات العلمية، يضاف إلى قانون انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي، والاتجاه نحو إنماء متوازن بما يعزز الريف اللبناني، وينمّي وضع أهله الاقتصادي والاجتماعي، ويبقي أبناءه فيه، بحيث لا يتحولون إلى فقراء في أحزمة بؤس في الضواحي حول العاصمة بيروت.
إن هذه العناوين التي يكثر الحديث عنها منذ عقود، وتتقدم في البيانات الوزارية للحكومات وخطابات القسم للعهود الرئاسية، والبرامج الانتخابية في حملات الانتخابات النيابية، وفي عمليات التحشيد والتعبئة للأحزاب اللبنانية، إلا أنها تبقى حبراً على ورق، ووعوداً تذهب في الهواء، وهدراً للوقت دون تطبيق لأي بند مما نطق به رواد الإصلاح، وأصحاب دعوات التغيير، مما يؤشر إلى أن العملية الإصلاحية في لبنان ما زالت تتعثر لسبب واحد، هو أن الانطلاق فيها يبدأ من حسابات طائفية الأمر الذي يبقيها متوقفة في مكانها، وعلى اللبنانيين الانتظار ساعة اليقظة الوطنية التي لا بد آتية مع قوى إصلاحية حقيقية وفعلية وعملية.
Leave a Reply