صبحي غندور
ما أهمّية الحديث عن «الهُويّة» وعن «العروبة» فـي هذه المرحلة؟ وما علاقة هذا الموضوع فـي تطوّرات خطيرة تشهدها المنطقة العربية؟ الإجابة تكمن فـي تحليل ظاهرة الانقسامات الطائفـية والإثنية التي تعيشها البلدان العربية والتي هي تعبيرٌ عن عمق مشكلة غياب الفهم الصحيح للدين وللهويّة الوطنية والقومية، وبالتالي فإنّ مسألة «الهوية» هي قضية معاصرة عنوانها كيفـيّة المحافظة على الهويّة الوطنية الواحدة المشتركة، فـي مقابل محاولات الفرز الطائفـي والمذهبي والإثني داخل الأوطان العربية.
مشكلتنا نحن العرب أنّنا نعاني، لحوالي قرنٍ من الزمن، من صراعاتٍ بين هُويّات مختلفة، ومن عدم وضوح أو فهم للعلاقة بين هذه الهويّات المتعدّدة أصلاً.
إنّ مشكلة «الهويّة العربية» نابعة من هذا الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة. فشعوب العالم يشترك البعض منها فـي حضارات، لكن هناك خصوصيات ثقافـية لكل شعب، حتّى لو اشترك مع شعوبٍ أخرى فـي حضارة واحدة، كما هو حال الحضارة الغربية الآن التي تنضوي تحت مظلّتها ثقافاتٌ متعدّدة. فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي انتقل بالنّاس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
إنّ معظم شعوب العالم اليوم تكوّنت دوله على أساس خصوصيات ثقافـية، بينما الثقافة العربية لم يُعبّر عنها بعدُ فـي دولةٍ واحدة. ونجد الآن داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافات إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغيين، وكما جرى فـي جنوب السودان) بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة «الدولة الواحدة». فالموجود الآن من الدول العربية هو أوطان لا تقوم على أساس ثقافاتٍ خاصة بها، بل هي محدّدةٌ جغرافـياً وسياسياً بفعل ترتيبات وظروف مطلع القرن العشرين التي أوجدت الحالة الراهنة من الدول العربية، إضافةً إلى إيجاد دولة إسرائيل فـي قلب المنطقة العربية.
وصحيحٌ أنّ هناك خصوصيات يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً أزمات يشترك فـيها كل العرب أو تنعكس آثارها على عموم أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل وأزمات تؤثّر سلباً على الخصوصيات الوطنية وعلى مصائر شعوبها. لذلك هناك حاجةٌ ماسَّة الآن للانطلاق من رؤية عربية مشتركة لما يحدث فـي حياة الأمّة العربية وعدم الانشداد فقط للهموم الخاصّة بكلّ بلدٍ عربي، وبالتالي العمل من أجل نهضة عربية مشتركة، كما هي الحاجة أيضاً لبناء خطاب وطني توحيدي داخل الأوطان نفسها.
لكن «الرؤية العربية المشتركة» لأزمات الأمّة تتطلّب أولاً التسليم بوجود «هُويّة عربية» مشتركة وبحسم المفاهيم الخاصة بها وبعلاقتها مع كل من «الهُويتين» الدينية والوطنية.
عن الهُويّة العربية
إنّ الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافـية عربية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي، ولا تخضع لمتغيّرات الظروف السياسية.
إنّ الانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة من حيث تكامل عناصر الأمَّة فـيها: لغة وثقافة واحدة لشعوب ذات تاريخ مشترك على أرض مشتركة ولها مصائر ومصالح مشتركة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها.
إنّ الهويّة العربية هي دائرة تتّسع، فـي تعريفها لـ«العربي»، لتشمل كل من يندمج فـي الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية أو الإثنية. إنّ العروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى فـي دائرة العالم الإسلامي.
إنّ «الهويّة الثقافـية العربية» كانت موجودةً كلغة وثقافة قبل وجود الدعوة الإسلامية، لكنّها كانت محصورةً بالقبائل العربية وبمواقع جغرافـية محدّدة.. بينما العروبة – كهويّة انتماء حضاري ثقافـي- بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّاد عرب .. هكذا أصبحت «العروبة الحضارية» هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافـية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك فـي صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتّالي خرجت الهويّة الثقافـية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدوديّة البقعة الجغرافـية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع فـي تعريفها لـ«العربي»، لتشمل كل من يندمج فـي الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية. ودخل فـي هذا التعريف معظم من هم عربٌ الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق أو النسب.
إنّ «القومية» هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافـية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها – القومية – لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن «فكر قومي» مقابل «فكر ديني»، بل يتوجب القول «فكر علماني» مقابل «فكر ديني»، تماماً كالمقابلة بين «فكر محافظ» و«فكر ليبرالي»، و«فكر اشتراكي» مقابل «فكر رأسمالي».. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه فـي أيِّ بلدٍ أو أمّة، فـي حين يجب أن يختصّ تعبير «الفكر القومي» فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافـي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير «العروبة» هو الأدقّ والأشمل حتّى تبقى مسألة الهويّة الثقافـية المشتركة بين كل العرب (بغض النظر عن اصولهم) منفصلة عن مفاهيم التعصّب القومي، خاصة فـي ظل وجود عرب من اصول ثقافـية إثنية غير عربية.
إنّ الدعوة إلى العروبة هي دعوة فكرية وثقافـية، والانتماء إلى العروبة يعني التسليم بالانتماء إلى أمَّة واحدة يمكن أن تُعبّر عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل والاتحاد بين أبنائها.. وهي رغم توفّر عناصر تكوين الأمَّة فـيها، فإنّها لم تصل بعد إلى حالة الانتماء إلى كيان سياسي موحّد، ولم يحصل ذلك تاريخياً من قبل على أساس مرجعية العروبة فقط. وذلك يعني أنّ «العروبة» فـي الجانب السياسي ما زالت «مشروعاً قيْدَ التنفـيذ»، وإن كانت «العروبة» قائمةً ومحققّة فـي الجانب الثقافـي على مرّ قرونٍ من الزمن. وهذا الأمر هو الذي سبّب الخلط الخاطئ بين العروبة كهويّة ثقافـية مشتركة بين كلّ العرب، وبين الممارسات السياسية باسم «العروبة» أو «القومية»، والتي كان بعضها سلبياً، فجرى رفض ما هو «ثقافـي مشترك» بسبب الخلافات السياسية أو لبعض الممارسات السيّئة باسم القومية العربية. وللوصول إلى مشروع الكيان الواحد أو الاتحادي تتوجّب حتماً الأساليب المرحلية المتعدّدة، شرط قيامها جميعاً على أساس ديمقراطي فـي الداخل وسلمي حواري فـي العلاقة مع الطرف العربي الآخر.
عن العلاقة بين الهُويّة العربية والإسلام
إنَّ الأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة وسط كلِّ العالم الإسلامي التي لا يصحّ التناقض فـيها بين الإسلام وبين الانتماء للعروبة. فالأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة التي نسج خيوطها الإسلام ولم تكن موجودة قبله، وهي تتميّز بهذا عن بقية الأمم الأخرى ولو كانت أمماً مسلمة. وبينما الإسلام هو دين وحضارة للعرب المسلمين، فإنّه حضارة وتاريخ وتراث للعرب المسيحيين. فلو أمكن للهويّة القومية بشكلٍ عام أن تتناقض مع الإسلام فـي أيَّة أمَّة فـي العالم، فهذا غير ممكن لها فـي الأمَّة العربية. فالعرب كانوا هم حملة رسالة الإسلام، واللغة العربية هي لغة قرآنه الكريم وحاوية معظم تراثه الفكري، بل إنّ فـي توحّد العرب قوّة للعالم الإسلامي كلّه.
عن الهويّة الوطنية
ولعلّ أبرز المراجعات المطلوبة عربياً فـي هذه المرحلة ترتبط بمسألة ضعف الهويّة الوطنية الجامعة وغلبة الانتماءات الفئوية الأخرى. ففـي هذه الظاهرة السائدة حالياً فـي أكثر من بلد عربي خلاصة لما هو قائم من مزيج سلبيات أخرى عديدة.
إنَّ ضعف الهويّة الوطنية لصالح هيمنة انتماءات ضيّقة يعني ضعفاً فـي البناء الدستوري والسياسي الداخلي. ويعني تسليماً من «المواطن» بأنَّ «الوطن» ليس لكلِّ المواطنين، وبأنّ «الوطن» هو ساحة صراع على مغانم فـيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى طائفة أو مذهب أو قبيلة بُعداً أكثر حصانة وقوّة من الانتماء الوطني الواحد، كما يصبح الانتماء الفئوي وسيلة يتمّ استخدامها للحفاظ على مكاسب سياسية أو شخصية أو لانتزاعها من أيدي آخرين.
كذلك، فإنّ ضعف الهويّة الوطنية قد يكون هو المدخل للتدخّل الخارجي، بل وللاحتلال أحياناً، حيث تتحوّل أولوية الانتماءات الضيّقة إلى مبرّرات تقتضي التعامل مع أي جهة خارجية من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى فـي الوطن الواحد!.
إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ أيضاً عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحيّة فـي مجتمعات تقوم على التعدّدية وعلى الاختلاف القائم فـي البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف عنفـي وصراعات سياسية دموية يعني تناقضاً وتصادماً مع الحكمة فـي الاختلاف والتعدّد، فـيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالف للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.
إنّ تراجع «الهُويّة العربية المشتركة» يؤدّي إلى تفكّك مفهوم «الهُويّة الوطنية» وإلى طغيان التسميات الطائفـية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية. وفـي هذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي فـي كلّ بلدٍ عربي، وبذا تصبح «العروبة» لا مجرّد أساس لبناء مستقبل عربي أفضل، بل أيضاً سياجاً ثقافـياً واجتماعياً ضدّ التدخّل الأجنبي، ولحماية الوحدات الوطنية فـي كلّ بلد عربي. وحينما تضعف الهُويّة العربية، فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تولِّد حروباً أهلية من شأنها أن تحرق الأخضر واليابس معاً.
Leave a Reply