تحوّلات دراماتيكية تشهدها العلاقات الأميركية–الأوروبية، على نحو قد يشي بتحوّلات أكبر على المستوى العالمي. ضاق الأوروبيون ذرعاً بدونالد بترامب. لم يعودوا قادرين على إخفاء ذلك، وهو ما تعكسه التصريحات غير المسبوقة لقادتهم تجاه الحليف التاريخي للقارة العجوز، والتي كان أكثرها تعبيراً قول الأمين العام لمجلس أوروبا ثوربيورن ياغلاند إن الرئيس الأميركي «لم يعد الزعيم الأخلاقي» للعالم، و«لم يعد بإمكانه التحدث باسم العالم الحر».
صحيح أن الموقف الناري للمسؤول الأوروبي قد جاء على خلفية قضية إنسانية تتعلق بقرار عنصري للإدارة الأميركية بفصل الأطفال عن عائلاتهم القادمة إلى الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، إلا أن سياقها يشي بالكثير، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالاقتصاد، حيث تجد أوروبا نفسها أمام «حرب تجارية» يشنها سيّد البيت الأبيض على كل الجبهات.
لا يخفي الأوروبيون، على كل المستويات، غضبهم الممزوج بالقلق من القرارات الكبرى التي اتخذها ترامب خلال الأشهر الستة عشر لرئاسته. وإذا كان التعبير عن ذلك الغضب قد اتخذ منحى كلامياً خلال الفترة الماضية، فإنّ استمرار «الحرب» جعل كافة الدول الأوروبية، وبإجماع نادر، تقرر «المقاومة»، في حين يتمسك ترامب بمقولة أن الأوروبيين استغلوا الولايات التحدة طويلاً سواء في تمويل حلف «الناتو» أو التجارة التي استنزفت الاقتصاد الأميركي العام الماضي بأكثر من ١٤١ مليار دولار، وفق تأكيده.
حراك باتجاه روسيا
كان ملفتاً الحراك السياسي الأوروبي الأخير باتجاه روسيا، التي زارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقبله المستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل، للبحث عن وسيلة للخروج من مأزق القرار الأميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، بما يعنيه ذلك من أثر تدميري على الاقتصاديات الأوروبية اللاهثة وراء الفرص الاستثمارية في الجمهورية الإسلامية منذ رفع العقوبات نتيجة لـ«تسوية فيينا».
ولكنّ أوجه الخلاف لم تعد تقتصر على هذا الميدان، فالسائد في السياسة الدولية هذه الأيام أن التناقض الغربي بين الأوروبيين والولايات المتحدة يكاد يشمل كافة الملفات الدولية، من كوريا الشمالية، حيث اتسم الموقف الأوروبي من لقاء دونالد ترامب وكيم جونغ أون في سنغافورة بالفتور، وصولاً إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تنظر أوروبا بعين القلق إلى الخطط الجديدة التي يحملها صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنير، تحت مسمّى «صفقة القرن»، وهو ما يفسر، بشكل أو بآخر، تفجر الموقف داخل مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، الذي انسحبت منه الولايات المتحدة، متهمة الدول العضوة فيه بـ«تقديم الخدمات المجانية» لإيران والصين وروسيا.
حتى البريطانيون، الذين كانوا حتى الأمس القريب، ولأسباب سياسية وتاريخية معروفة، في طليعة المدافعين عن العلاقات المتينة على ضفتي الأطلسي باتوا أشد حماسة لمؤازة الدول الأوروبية الأخرى في التصدي لاندفاعة ترامب، والذي يفترض أن تكون أولى بوادرها تشريع يمنع الشركات الأوروبية من الالتزام بالمقاطعة الأميركية لإيران، فضلاً عن السماح بتحويل الأموال إلى المصرف المركزي الإيراني بما يتيح له تسلم عوائد النفط والتجارة باليورو بدل الدولار.
المفصل الإيراني
ربّ قائل إن هذا النوع من الخلافات قابل للاحتواء، خصوصاً أن العلاقات الأوروبية–الأميركية قد شهدت تباينات سياسية واقتصادية، منذ حقبة الحرب الباردة (أزمة قناة السويس، العلاقات مع كوبا)، مروراً بالموقف من الحرب على يوغوسلافيا في أواخر التسعينيات والغزو الأميركي للعراق في العام 2003، ووصولاً إلى ليبيا وسوريا وغيرها من الملفات، إلا أن ثمة شعوراً أوروبياً بأن ما يجري اليوم يأتي في سياق مختلف، خصوصاً أن الشكوك تتزايد بشأن «التزام الولايات المتحدة بمراعاة مصالح حلفائها» وهي السياسة التي ظلت طوال عقود خلت صمام الأمان في عدم تفجر العلاقات على ضفتي الأطلسي.
على هذا الأساس، يبدو أن العالم قد دخل فعلاً في مرحلة العد العكسي للتحولات المتصلة بالعلاقات الدولية، مع اقتراب المهل المحددة من قبل الإدارة الأميركية للشركات الدولية لكي تنهي تعاملاتها في إيران، التزاماً بالعقوبات المتجددة (الفترة بين 90 و180 يوماً من تاريخ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي).
بذلك، يبدو الكل في سباق مع الوقت، تتحوّل فيه الدفة الأوروبية من السعي لتسوية جديدة، عبر حشد الماكينة الدبلوماسية العابرة للقارات، والتي أفضت من الناحية السياسية إلى فك القطيعة الأوروبية مع روسيا، باتجاه البحث عن سبل التعامل مع السيناريو الأسوأ، والمتمثل في تصاعد «الحرب التجارية» الأميركية المعلنة من قبل الولايات المتحدة، وهو ما ينذر بتموضعات جديدة، تنتقل فيها أوروبا شرقاً نحو روسيا والصين، التي يحاول ترامب بدوره اختراقها، من خلال الانفتاح أكثر على «الدولة المارقة» الآسيوية ؛ كوريا الشمالية.
وسط هذا المشهد المعقد، لا شك في أن ترامب يرتّب بدوره ملفاته، ويستعد أيضاً للتعامل مع السيناريوهات الأكثر تطرفاً، خصوصاً أن الريبة لا تزال سيدة الموقف في الانفتاح الجديد على الشرق الآسيوي من جهة، والعداوة الواضحة مع روسيا الأوراسية من جهة أخرى، وهو ما يضع الولايات المتحدة في موقف صعب للغاية، في حال اجتمعت المصالح الدولية، من بكين وموسكو وصولاً إلى باريس وبرلين على تحالفات سياسية واقتصادية جديدة تضع الولايات المتحدة في موقف العزلة.
الشرق الأوسط
بهذا المعنى، يمكن فهم التحرّك الأميركي المستجد نحو الشرق الأوسط، حيث يسعى دونالد ترامب إلى ضمان وقوف الحليف الإسرائيلي إلى جانبه، من خلال تسديد فاتورة مسبقة لأي تصعيد جديد مع إيران، وهو تصفية القضية الفلسطينية وفق الرؤية الصهيونية، واستمالة السعودية مجدداً إلى المحور، عبر تعزيز نفوذ محمد بن سلمان، لكي تستمر «البقرة الحلوب» في ضخ أموالها إلى الولايات المتحدة.
انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم توقيت معركة الحديدة في اليمن، التي تأمل السعودية، ومن خلفها الإمارات، من خلالها إلى «الحسم العسكري» أو على الأقل تحقيق نصر عسكري يمثل نهاية المرحلة الأولى، أو ربما الأخيرة في العدوان السعودي على اليمن، والفرصة الأمثل للخروج من المستنقع بـ«انجاز» معيّن.
ولا يمكن إنكار محورية معركة الحديدة في الصراع الإقليمي–الدولي على أرض اليمن، فالمدينة الساحلية التي توصف بـ«فم اليمن» تعد المدينة الساحلية الأبرز التي يسيطر عليها الحوثيون.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة سعت للنأي بنفسها عن هذه المعركة، التي يسعى محمد بن سلمان إلى حسمها بأقصى سرعة، إلا أن القاصي والداني يعلمان بأ ن فتح معركة بهذه الخطورة لا بد أن يكون قد اقترن بضوء أخضر أميركي.
ولا تغير في الأمر، التحذيرات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين للسعودية والإمارات من «خطورة» هذه المعركة، ونتائجها التي «ستؤدي إلى إطالة أمد الصراع»، فمعالم الدعم الأميركي الفعلي لـ«التحالف» في الحديدة واضحة تماماً، وهو ما كشفت عنه على سبيل المثال دورة «انتيليجنس» الفرنسية المختصة في الشؤون الامنية والاستخبارية، والتي أكدت أن الولايات المتحدة، ومعها المخابرات المصرية، تقدم المؤازرة الميدانية المباشرة للسعوديين والاماراتيين، ومن خلفهم قوات عبد ربه منصور هادي، في مواجهة الحوثيين، وذلك بشكل غير مسبوق على الإطلاق.
على خط آخر، وفي تزامن مثير للانتباه، تروّج الدوائر الأميركية بأنّ الظروف باتت ناضجة أمام إعلان ترامب عمّا بات يُعرف إعلامياً بـ«صفقة القرن»، خصوصاً هذا الخطوة، التي تم التمهيد لها بقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والخروج الأميركي من مجلس حقوق الانسان، تأتي جزءاً لا يتجزأ من الضغوط التي تسعى الولايات المتحدة من خلال ضغط سياسي على إيران، يوازي في خطورته الضغط العسكري في اليمن وسوريا، وفي الوقت ذاته وضع الأوروبيين في موقف العزلة عن قضايا الشرق الأوسط، لا سيما من البوابة الإسرائيلية.
Leave a Reply