نبيل هيثم – «صدى الوطن»
يوم سُئل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قرار نظيره الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا، بدت إجابته فاترة للغاية: «لا أعرف ما المقصود بذلك. الولايات المتحدة تتواجد في أفغانستان منذ 17 عاماً، وفي كل عامٍ تقريباً يقولون إنهم سيسحبون قواتهم من هناك… ولكنهم ما زالوا متواجدين».
هكذا، اتسمت المقاربة الروسية للقرار المدوّي، الذي شغل العالم خلال الأسبوعين الأخيرين من العام المنصرم –بشيء من التشكيك والحذر– على نحوٍ قاد الدبلوماسية الروسية إلى التحرّك ضمن إطار احتوائي للتداعيات المترتبة على الانسحاب الأميركي المحتمل، وما يمكن أن يحمل في طياته من أهداف خطيرة… إذا نُفّذ.
تبدو المقاربة الروسية في محلّها. فالرئيس الأميركي اختار «السيناريو الأفغاني» حين رفض تحديد جدول زمني لسحب القوات من سوريا، مستخدماً عبارات فضفاضة مناقضة لتلك العبارات الحاسمة التي أطلقها حين أعلن عن قراره المثير للجدل: «لم أقل قط، سريعاً أو بطيئاً… قال أحدهم إنه سيستغرق أربعة أشهر، لكنني لم أقل ذلك أيضاً».
وأوضح البيت الأبيض في بيان، الاثنين الماضي، أن الرئيس يريد ضمان سلامة القوات الأميركية مع انسحابها من سوريا، وإنه «لم يغير موقفه بشأن سحب القوات». جاء ذلك بعد يوم من توضيح مستشاره للأمن القومي جون بولتون شروطاً تتعلق بحماية الأكراد قد تجعل الانسحاب يستغرق شهوراً.
وكان بولتون قد أضاف شرطاً جديداً للانسحاب الأميركي من سوريا قائلاً إنه يجب أن توافق تركيا على حماية الأكراد المتحالفين مع الولايات المتحدة.
كذلك لا يفوت الرئيس الجمهوري فرصة للتصويب على الديمقراطيين من بوابة السياسة الخارجية، وهي استراتيجية يفترض أن يكثفها خلال الفترة المقبلة، خصوصاً أن الولايات المتحدة قد دخلت عملياً في مرحلة الانتخابات الرئاسية، بعد طي صفحة التجديد النصفي للكونغرس.
وبرغم اعتباره أن سوريا هي «رمل وموت» بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وقوله «نحن لا نريد سوريا»، إلا أن ترامب سعى إلى إلقاء تبعات «الخسارة في سوريا» على سلفه باراك أوباما، قائلاً عنه: «لقد تخلى عن سوريا قبل سنوات عندما لم يحفظ الخط الأحمر».
يدرك ترامب جيّداً أن «سوريا فُقدت منذ زمن بعيد»، وبالتالي فإنّ ثمة ضرورة للقيام بشيء ما يحفظ ماء وجه الولايات المتحدة، بالحد الأدنى، تجاه تلك الخسارة، وتقويض ما حققه المنتصرون، أو بعبارة أدقّ من هم حالياً على طريق الانتصار، ولاسيما روسيا وإيران، وبطبيعة الحال الرئيس بشار الأسد، الذي بدأ يقطف في السياسة الخارجية ثمار ما تحقق في الميدان، مع تقاطر الرؤساء العرب وسفرائهم إلى دمشق.
مؤامرة؟
كان إعلان الرئيس الأميركي المفاجئ بسحب القوات من سوريا قد ترك المجال مفتوحاً أمام الكثير من التساؤلات، خاصة ما إذا كان المقاتلون الأكراد الذين ينشطون في شمال سوريا بدعم من القوات الأميركية سيصبحون الآن مستهدفين من تركيا التي تناصبهم عداء تاريخياً.
في ظل هذه المتغيّرات، ثمة من اعتبر منذ البداية أن قرار الانسحاب الأميركي من سوريا كاذب، أو بعبارة أكثر دقة، مجرّد مناورة تكتيكية كان الهدف منها إرباك الآخرين.
وكان واضحاً لهؤلاء أن قرار سحب القوات الأميركية استهدف دفع تركيا وروسيا إلى المواجهة، فالانسحاب يعني أن «قوات سوريا الديمقراطية» التي تسيطر الآن على الضفة الشرقية لنهر الفرات ستبقى من دون دعم أميركي، ما يعني أن الفرصة ستكون سانحة لكل من تركيا وسوريا لملء الفراغ.
وعلى هذا الأساس، كان جليّاً، الإصرار التركي على تطهير ليس مدينة منبج فحسب، وإنما «كردستان السورية» بأكملها، في مقابل الإصرار الروسي على أن تسلم «قوات سوريا الديموقراطية» المناطق الغنية بالنفط في الضفة الشرقية للفرات وتنسحب طواعية إلى الشمال، وعندئذ يضعها الجيش العربي السوري تحت حمايته.
هذا التناقض كان مهماً جداً للولايات المتحدة، خصوصاً أنه يعني أن سوريا، وروسيا التي تدعمها، ستدخلان حتماً في مواجهة مع تركيا.
لهذا السبب، كان مفهوماً أن يحدث إعلان ترامب بشأن الانسحاب من سوريا إرباكاً للجميع، باستثناء روسيا التي حافظت دبلوماسيتها على «ثباتها الانفعالي»، وسارعت إلى مقاربة التطورات بهدوء، ومع الأتراك مباشرة.
وجاء اللقاء بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والتركي مولود جاويش أوغلو في موسكو، والذي خلص إلى مجموعة من التفاهمات –بعضها ما زال غير معلن– تركزت على ثلاثة محاور أساسية أهمها التنسيق الثنائي بين انسحاب القوات الأميركية من شرق الفرات، والتسوية السياسية في سوريا، وموضوع عودة اللاجئين.
ومن المرجح أن تكون تلك التفاهمات عاملاً أساسياً لدفع الأميركيين إلى التراجع جزئياً عن قرار الانسحاب من الشمال السوري، بالنظر إلى الاحتواء الروسي–التركي للأهداف المرسومة لهذه الخطوة.
انطلاقاً من ذلك، عاد ترامب إلى المربع الأول، خصوصاً في حديثه عن الأكراد، حين قال «نريد حمايتهم»، برغم انتقاده لبعض تحركاتهم، ومن بينها «بيع النفط لإيران»!
لكنّ الأمر لا يقتصر على هذا الجانب، فثمة عوامل كثيرة متداخلة دفعت بالكثيرين إلى التشكيك بالخطوة الأميركية، فقرار ترامب في استدعاء قواته من سوريا كان غريباً إلى حد كبير، إذا ما تتبعنا مسار الأمور في الداخل الأميركي خلال الأشهر الماضية، حيث عمد ترامب إلى تنصيب شخصيات متطرفة مثل جون بولتون وجيمس جيفري، وإعطائمها أدواراً كبيرة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية، مع العلم أن هذين الرجلين كانا ولا يزالان يصران على البقاء في سوريا حتى مغادرة جميع القوات الإيرانية.
الحلفاء الأوروبيون وإسرائيل
الجانب الثاني يتمثل في النصائح الداخلية التي أتت لترامب بعدم توتير العلاقات مع أوروبا. ومما لا شك فيه أن قرار الانسحاب المفاجئ من سوريا عزز هذا التوتر، خصوصاً أن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا لم تخف انزعاجها من أحادية اتخاذ القرارات داخل التحالف الدولي ضد «داعش»، وعدم التنسيق معها في خطوة على هذا القدر من الخطورة.
ولعل سلوك ترامب بعدم إبلاغ القادة الأوروبيين بقرار الانسحاب، يظهر وصول التعاون الاستراتيجي الأميركي–الأوروبي إلى أدنى المستويات، خصوصاً أنه يأتي في سياق أوسع، يشمل الخلاف حول الملف الإيراني والعلاقات مع روسيا والسعودية، وبالتالي ربما كان من المفيد إظهار بعض المرونة، انطلاقاً من نصائح داخلية، بضرورة خفض الهواجس الأوروبية، عبر توضيح طبيعة قرار الانسحاب، طالما أن الاهداف المباشرة منه لم تتحقق.
يضاف إلى ما سبق أن الوجهة العامة للسياسة الأميركية لا تسمح باتخاذ قرارات مناقضة للمصالح الإسرائيلية.
وبحسب ما رشح من الصحافة العبرية والأميركية فإنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي عبّر عن عدم رضى تجاه قرار ترامب الانسحاب من سوريا، خصوصاً أن خطوة كهذه من شأنها أن تجعل إسرائيل وحيدة في التعامل مع المخاطر على جبهتها الشمالية.
ومن المرجح أن تكون دوائر أميركية حليفة لإسرائيل قد بذلت جهداً كبيراً لدى ترامب لتعديل وجهته، بما يمكّن تل أبيب من كسب مزيد من الوقت، بالحد الأدنى، لفرض قواعد اشتباك جديدة مع سوريا.
كذلك، يبدو واضحاً أن ترامب عرضة لتيار كابح في الداخل، فمعظم المسؤولين الأميركيين يفضلون أن تبقى الأمور على ما هي عليه، ولهذا فإن قرار الانسحاب من سوريا أغضب الحزب الجمهوري الذي أيد بشدة، مهمة الجيش الأميركي في شرقي سوريا.
ومن هنا يمكن فهم استعداد ترامب للتسوية بشأن كيفية الانسحاب، خصوصاً أن حالة الاعتراض الداخلية قد تتحول إلى ما يشبه «المؤامرات» لمنعه من تنفيذ الانسحاب، من خلال مروحة متفاوتة من الخيارات مثل الاشتباك، أو استخدام الأسلحة الكيميائية أو إطلاق العنان لما تبقى من عناصر «داعشية» لأخذ زمام المبادرة من جديد، خصوصاً أن ثمة تقارير أفادت بقيام المجموعات الكردية بإطلاق سراح سجناء التنظيم الإرهابي، والغرض من ذلك واضح، وهو تعطيل خطة الانسحاب.
ورغم كل ذلك نفى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الخميس الماضي وجود أي تناقض بشأن سحب القوات من سوريا، متهماً الإعلام باختلاق هذه القصة، ومؤكداً أن قرار سحب القوات من سوريا «اتخذ وسينفذ»، نافياً وجود تناقض بين إعلان الانسحاب من سوريا وبين الشروط التي ذكرها في ما بعد مسؤولون أميركيون كبار، من بينهم بولتون.
كذلك كان بومبيو قد تعهد بأن تواصل الولايات المتحدة شن ضربات على «الإرهابيين» في الشرق الأوسط، مؤكداً استعداد ترامب، لتنفيذ عمليات جديدة بسوريا إن اقتضى الأمر ذلك.
كل ذلك، يقود إلى خلاصة، سبق أن أطلقها الخبير العسكري الروسي فيكتور ليتوفكين منذ إعلان ترامب عن قراره، حين قال إن «الأميركيين لم يسبق أن غادروا طواعية مناطق سيطروا عليها، وها هم قد بنوا في سوريا 17 قاعدة وبدأوا بنشر نقاط مراقبة على الحدود التركية السورية».
تبقى الخلاصة الأساس أن العين على سوريا ومحيطها، ويمكن أن تشهد في الآتي من الأيام ما هو أكبر وأعظم سواء في الميدان السياسي أو العسكري.
Leave a Reply