ما حصل في مدينة شارلوتڤيل الأميركية، الواقعة في ولاية ڤيرجينيا، هو هجوم إرهابي بكل معنى الكلمة ارتكبته جماعات النازية الجديدة ومدَّعي تفوُّق العنصر الأبيض الذين نموا وشبُّوا وترعرعوا واستقووا في ظل إدارة ترامب.
المجزرة التي نجمت عن دهس المناهضين للكراهية والعنصرية والذي تسبب بمقتل امرأة وجرح آخرين، ورد فعل رئيس تلفزيون الواقع عليها، اثبتت أخيراً وبوضوح أن لا روسيا ولا غيرها ساهم في انتخاب ترامب للرئاسة رغم محاولات تدخل موسكو ضد هيلاري كلينتون خلال الحملة الانتخابيّة.
فقد تبين حجم دعم العنصريين البيض لمرشحهم ترامب الذي لم يتوانَ عن الدفاع عنهم وقت الامتحان ولو عبر محاولة التورية في الكلام والتدليس السياسي، وذلك في أغرب موقف صادم يتخذه رئيس للولايات المتحدة وللعالم المسمى حراً، في التاريخ! النازيون الجدد تبيَّن أنهم خزان وسلاح ترامب السري الإستراتيجي الذي أوصله إلى البيت الأبيض، وهم الذين يقفون وراءه اليوم يُمثلهم النازي العنصري ستيفن بانون، مستشار ترامب للشؤون الإستراتيجية.
المؤسسات الإعلامية والسياسيون والجمهوريون وموظفو البيت الأبيض لم يستوعبوا بعد، صدمة ترامب وكشفه عن جلده الحقيقي في دعم جماعات الكراهية. ولكن المربك أكثر في موقف دونالد هو أنَّ جماعة العنصريين ومناصري هتلر يكرهون اليهود، كما يذكّرنا الإعلام الأميركي دوماً متجاهلاً كرههم الأشد للسود والعرب وباقي الجماعات التي لا تشبههم، لأنه بعرف هذا الإعلام حياة اليهود هي المعتبرة فقط وذات القيِّمة الفعلية لا غيرهم. قلنا إنَّ المحير في الموضوع هو أنَّ ترامب يكاد يكون أكثر ليكوديةً من نتنياهو نفسه وأكبر مدافع عن إسرائيل عدا عن أن صهره القوي صهيوني يهودي رباه نتنياهو منذ الطفولة وابنته ايڤانكا اعتنقت اليهودية، فكيف يوفِّق بين الجماعات العنصرية الحاقدة على اليهود وشغفه الشديد ودفاعه عن اسرائيل؟
بل كيف يكون أعتى عتاة الإعلام الأميركي المنحاز للصهيونية مثل «سي أن أن» و«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، معادياً لترامب حليف تل أبيب الذي ليس قبله ولا بعده حليف؟ وكيف تستسيغ هذه الجماعات المعادية للسامية والمؤيدة للتفوق الآري الأبيض، هذا الحلف مع تل أبيب؟ ربَّما لدى الجماعات «الكريهة» أجندة خاصة بها تنفذها وتستعمل فيها ترامب لكي تصبح ظاهرة شعبية معتبرة ومعنى هذا إذا صح أنَّ جماعات الحقد والكراهية هم انتهازيون مثل رئيسهم!
لقد فاض فم ترامب بالحديث عن «الإرهاب الاسلامي» وهو محق إذا كان يقصد السفاحين في «داعش» و«النصرة» وغيرهم من التكفيريين حاملي عقيدة الوهابية، لكنه كان يقصد كل المسلمين ولم يعد يقصد التكفيريِّين الخوارج طبعاً بعد صفقة تنصيب محمد بن سلمان التي كان ثمنها 460 مليار دولار. لكنه لم يُلبِس صفة الإرهاب على العنصري الذي دهس المتظاهرين بسيارته كما فعل مجرمو «داعش» في عمليات ارهابية مماثلة في أوروبا، وآخرها في إسبانيا حيث «يتمرجل» سفاحو «داعش» الجبناء الذين تتم إبادة ومحو دولتهم في الشام وبلاد الرافدين ولبنان، على سياح مدنيين أبرياء. لكن هذا آخر العهد بهم ولن تقوم لهم قائمة بعون الله وهم محاصرون في عُقر دارهم اليوم.
ترامب سريع التنبه للارهاب الآخر لكن لا الإرهاب الداخلي الفاشي الأبيض رغم أن الفعل الإجرامي في شارلوتڤيل حمل كل «مؤهلات» الإرهاب الداعشي!
إنَّ موقف البيت الأبيض من الأحداث عادة يشكل السلوك الجمعي والذاكرة الجماعية للأمة الأميركية ويتبنى المباديء التي وضعها المؤسسون للجمهورية ويستمد مدده من الروحية الأخلاقية للرئاسة وفي مثل هذه الحالة كان الموقف يتطلب إدانة للعنف الإرهابي ومصدره بالاسم الجماعات العنصرية البيضاوات والمناهضة للحكومة ولكن موقف ترامب الذي اعترف بهم لأول مرة عبر مساواتهم بالمعارضين للكراهية والفاشية، هو نبش لجروح الحرب الأهلية الأميركية في 1860 وربما استحضارها من جديد إلى داخل المجتمعات والقرى والمدن والدساكر الأميركية.
والمشكلة أنَّ الرأي العام الأميركي مطواع ولا يثبت على قرار هذه الأيام ولو ارتكب أي رئيس أميركي آخر ما فعله ترامب في ستة أشهر من كذب وتخبط وفوضى وتصرفات طائشة حسب ادعاء كل الإعلام الأميركي، لقامت الدنيا ولم تقعد في وجهه. تصوروا بعض الكلام الذي صدر عن ترامب وحماقاته وأضاليله لو صدرت عن آوباما مثلاً، فماذا كان رد فعل جماعات التفوق العنصري؟
لقد تدنت شعبية ترامب إلى أدنى مستوى لها مقارنة مع أي رئيس قبله خلال فترة بداية اعتلائه للسلطة، وذلك بسبب تصرفه العشوائي غير الموزون وعدم أهليته للرئاسة، ولكن وجدنا فجأةً أنَّ شعبيته ارتفعت فقط عندما تحدى كوريا الشمالية وأعلن، وكأنه في فيلم هوليوودي أن الصواريخ «معبأة ومجهزة» للانطلاق (locked and loaded). وهذا أمرٌ مخيف في الزمن النووي ويدل على أنَّ الرأي العام الأميركي حمَّال أوجه بسبب صبره حتى الآن على كل هفوات وتعثُّر وأخطاء ترامب وبسبب تحمُّله له طيلة هذه الفترة رغم انتقاده يومياً، وحتى المجازفة بتأييده في مراهنة خطرة قد تنجم عنها مجابهة نووية لا تبقي ولا تذر. فإما أنَّ الشعب الأميركي لم يعد يقدر على الثورة لظروف عديدة خارجة عن ارادته أو أنَّ إرادة التغيير عنده قد «باظت» أم أنَّ ترامب قوي وواثق بنفسه لدرجة كبيرة لم يعد يهمُّه أحد. فهل أميركا مقبلة على مجابهات جديدة بعد «استئساد» العنصرية البيضاء وغضب أغلبية الشعب الأميركي المعادي لها؟ وهل سيتسبب ترامب بمواقفه الخرقاء بتكرار الحرب الأهلية؟
هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة!
Leave a Reply