نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«سيُعلَن رسمياً في وقت لاحق، ربما الأسبوع المقبل، أنه بات لدينا مئة في المئة من الأراضي المحررة من دولة الخلافة».
بهذه العبارة نسب دونالد ترامب لنفسه إنجازاً حققه غيره، في مسعى «تجاري» لقطف ثمار معارك شرسة خاضتها جهات عدّة، على امتداد أراضي سوريا والعراق وصولاً إلى لبنان، وأثبتت تلك القوى بجيوشها النظامية والقوات الرديفة، وبدعم حلفائها من روسيا وايران، جدّيتها في دحر الإرهاب، كخيار بديل عن استخداماته السياسية.
ليست تلك ملاحظة تفصيلية، خصوصاً حين يأتي كلام ترامب في سياق اجتماع مع وزراء أجانب ومسؤولين كبار آخرين من 79 دولة عضو في التحالف الدولي، وهو الاجتماع الذي كان قبل سنوات أشبه بمجلس حرب يترأسه باراك أوباما، في محاولة خطيرة لاستخدام ورقة الارهاب للتعويض عن الخسارة الاستراتيجية التي خلفها قرار الانسحاب الاميركي من العراق.
أهمية كلام ترامب تأتي من عنصرين، الأول هو أنه يأتي لتأكيد قرار الانسحاب من شمال سوريا، بعدما قوبلت هذه الخطوة بتشكيك كبير، خصوصاً أنها أتت مناقضة لخيارات مستشاري البيت الأبيض وعسكريي المنظومة الحاكمة في الولايات المتحدة، وهو ما أعاد الرئيس الأميركي التأكيد عليه مرّة أخرى في خطاب حال الاتحاد للعام 2019.
وأما العنصر الثاني، فهو أن استحضار «داعش»، يأتي ليكرّس الفشل المسبق لاجتماع وارسو الذي أفرغ جدول أعماله من كافة المحاور المفصلية في الشرق الأوسط، ليستقر على الجانب المتصل بالحرب على الإرهاب، أي بمعنى آخر، فإنّ المشاركين في هذا الاجتماع، لن يسمعوا من الأميركيين إلا كلاماً مكرّراً عن «هزيمة الإرهاب»، وتطمينات غير مجدية بشأن ما بعد الانسحاب من سوريا.
وعود انتخابية
بذلك، يبدو ترامب على عتبة تنفيذ كل ما تعهد به، خلال حملته الانتخابية في السباق إلى البيت الأبيض عام 2016، وذلك استباقاً لمحاسبة الناخبين له في السباق المقبل عام 2020، والذي يبدو أنه بات الحاكم في كل الخطوات التي ينتجها الرئيس الأميركي، منذ انتهاء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس العام الماضي.
يمكن لترامب إذاً، أن يقول للجمهور الأميركي بعد أشهر، أنه حقق الكثير من الوعود الانتخابية، بدءاً بعودة الجنود إلى وطنهم –مع الإشارة إلى أن قرار الانسحاب من سوريا يتزامن مع تحريك المفاوضات الافغانية لضمان الانسحاب الأميركي من هذ البلد، ليبقى بذلك أمام معضلة تحقيق شعار «جعل أميركا أقوى».
ومما لا شك فيه أن تحقيق الشعار المذكور، ولو بإنجازات محدودة تحفظ ماء وجه الرئيس الأميركي الطامح إلى ولاية رئاسية جديدة، لا بد أن تتركز على عنصر الاقتصاد، خصوصاً حين يكون الحديث عن رئيس مرشّح آتٍ يقارب السياسة بمنطق التجارة.
من هنا، يمكن فهم الحراك الأميركي القائم حالياً، والذي يبتعد شيئاً فشيئاً عن المنطقة العربية، ولا سيما الخليج، وخصوصاً الخليج العربي، بعدما لم تعد «البقرة الحلوب» مدرّة لما يكفي من حليب لرفد الاقتصاد الأميركي بجرعات إضافية من الأموال.
اهتمامات جديدة
ولعلّ مراقبة الحراك الأميركي خلال الأشهر الماضية يشي بأنّ المعارك الترامبية باتت في أراضٍ أخرى، بعيداً عن «أرض الخلافة» التي منح ترامب نفسه فخر تحريرها. ففي فنزويلا يخوض ترامب أحدث معاركه، الهادفة من جهة إلى إسقاط النظام اليساري الذي يمثله نيكولاس مادورو، ومن خلفه منظومة البديل البوليفاري، التي لم يتمكن سلفه باراك أوباما من توجيه الضربة القاضية لها، ومن ناحية أخرى ضمان أن نفط فنزويلا سيكون في أيادٍ حليفة، في حال تحقق الهدف السياسي بتثبيت خوان غوايدو رئيساً؛ ومن جهة ثانية، إحكام السيطرة على آبار النفط التي سبق أن خسرتها الولايات المتحدة بوصول الرئيس الراحل هوغو تشافيز إلى الحكم.
الأمر ذاته ينطبق على الصين التي يخوض ترامب ضدها واحدة من أخطر الحروب التجارية، من خلال سياسة رفع التعرفات الجمركية بمعدلات هائلة، لإنهاء النزيف المستمر في الميزان التجاري، وهي اجراءات استدعت رد فعل صيني كبيرا، جعل الرئيس الاميركي، يتريّث في الذهاب بالمواجهة إلى نهاياتها، بموافقته على هدنة الثلاثة أشهر التي تقترب من الانتهاء، والتي يسعى خلالها للحصول على تنازلات صينية بناء على ما حققته المنازلة الاقتصادية الأولى التي دارت بين شهري شباط (فبراير) وكانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي.
وكذلك هي الحال في المقاربة الترامبية للملف الإيراني، حيث يدفع الرئيس الأميركي بالمواجهة إلى المجهول، وإن خاطر بعلاقاته مع أقرب حلفائه، خصوصاً أن ايران هي نقطة أساسية في البرنامج الانتخابي أوصله إلى البيت الأبيض، وهو ما يجعله اليوم يعمد إلى تصوير الصراع مع الجمهورية الإسلامية كما لو أنه صراع أممي، وهو ما عبّر عنه وزير خارجيته مايك بومبيو، حين أشار إلى وجود إيراني – بجانب «حزب الله» في فنزويلا لدعم نيكولاس مادورو!
أزمات عالقة
بطبيعة الحال، يستلزم الأمر بالنسبة إلى ترامب مزيداً من التصعيد مع روسيا، دفعه إلى تعليق مشاركة الولايات المتحدة في معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، وهي خطوة لا تقتصر أهدافها على الطابع الانتخابي، بل تأتي لترد على الاتهامات الموجهة إليه في الداخل الأميركي بأنه عميل في خدمة فلاديمير بوتين.
مع ذلك، فإنّ كل هذه الجهود تبقى نتائجها الملموسة في إطار التكهنات، ففي فنزويلا لا يزال مادورو رئيساً يحكم باسم الشرعية الشعبية، ويحظى بغطاء دولي من جانب روسيا والصين والهند وايطاليا التي برز دورها المؤثر في تعطيل قرار أوروبي جامع بالاعتراف بخوان غوايدو رئيساً.
وعلى الجبهة الصينية، لا يبدو أن «التنين الآسيوي» مستعد للاستسلام، فثمة ضربات موجعة على المستوى الاقتصادي وجهتها الصين للولايات المتحدة، في إطار الحرب التجارية، وقد طالت نتائجها تحديداً الولايات الأميركية المعروفة بتأييدها الانتخابي لترامب.
وأما إيران، فلا يبدو أنها تأثرت بالانسحاب الأميركي من تسوية فيينا، لا بل يؤكد مسؤولوها الجاهزية الكاملة للتعامل مع وضع جديد قد ينشأ، أقله من الناحية الاقتصادية، وهو ما دفعها إلى تحصين نفسها بعدة اجراءات اقتصادية، كان آخرها فتح قناة للتعامل الماضي مع الأوروبيين، ما يفقد العقوبات الأميركية جدواها.
وتبقى روسيا التي دفعها قرار ترامب الانسحاب من المعاهدات الصاروخية إلى رد قوي، تمثل في إعطاء التوجيهات اللازمة لتزويد الجيش الروسي بأحدث المنظومات المحلية المخصصة في مواجهة التصعيد الأميركي بما في ذلك، الصواريخ الفرط صوتية، والتلويح بتعليق العمل بالمعاهدات المجحفة، والتي تم التوصل إليها عن طريق الحرب الاقتصادية وسياسة الاحتواء التي اعتمدت في مطلع الثمانينات من قبل إدارة الرئيس رونالد ريغن، والتي أدت في نهاية المطاف إلى إسقاط الاتحاد السوفياتي، ووسط تقديرات على أعلى مستوى، بأن الرد الروسي الذي لاحت بوادره بعد ساعات من الإعلان الأميركي سيكون حاسماً، بالرغم من أنه لن يشكل عبئاً على الاقتصاد الروسي، بخلاف ما تسعى إليه الولايات المتحدة، وهوما دفع بهيلاري كلينتون إلى التصريح بأنّ ما قام به ترامب في ملف الصواريخ يمثل «هدية» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وبانتظار ما ستؤول إليه الحال في كل ملف على حدة، يبدو أن ترامب قد اختار أن يمضي السنتين الأخيرتين من ولايته بسلسلة تحركات تنسجم مع تاريخه كـ«إمبراطور للقمار»، الذي من تكتيكاته إمكانية التضحية ببعض الأوراق (كما يجري في الشرق الأوسط)، ودفع الغالي والنفيس للحصول على الغنيمة الكبرى «الجاك بوت»، أو ربما في درجة قصوى، الذهاب إلى حرب متعددة الجبهات يرمي فيها الرئيس الاميركي كل «صولده».
Leave a Reply