بين «خدعة القرن» و«الضغوط القصوى» على إيران
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
كل شيء معلّق حتى أيار (مايو) المقبل.
هذا ما يكشفه الجمود الحاصل في الملفات الشائكة المتصلة بمصير الشرق الأوسط، حيث تتجه الأنظار إلى خطوتين أميركيتين مرتقبتين، لا تزال تفاصيلهما مبهمة، لا بل أن ثمة من يعتقد بأنها غير واضحة حتى عند صنّاع القرار في البيت الأبيض.
أولى هاتين الخطوتين، تتصل بالخطة الأميركية التي طال انتظارها منذ وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية بشأن التسوية في فلسطين، أو ما بات يُعرف إعلامياً باسم «صفقة القرن»، التي يستعد مهندسها جاريد كوشنر، صهر الرئيس النافذ، لكشف النقاب عنها، في موعد لم يُحدد بعد، ولكنه مرجّح ما بين ذكرى النكبة في 15 أيار، أو مباشرة بعد انتهاء شهر رمضان.
أما الخطوة الثانية، فموعدها محدّد مسبقاً، في شهر أيار نفسه، وفق الجداول الزمنية التي سبق أن حددتها الإدارة الأميركية للتصعيد ضد إيران، ضمن سلسلة متتابعة من الإجراءات العقابية المنبثقة عن قرار الرئيس الأميركي الانسحاب، بشكل أحادي من الاتفاق النووي الإيراني.
إسرائيل أولاً
لا شك في أن ثمة ترابطاً بين الخطوتين الأميركيتين بشأن إيران وفلسطين، وإن كان الملفان في الظاهر مختلفين. يمكن رصد عنصر مشترك بينهما، وهو إسرائيل، التي يسعى رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، بعدما تمكن من تحصين جبهته السياسية غداة انتخابات الكنيست الأخيرة، من كسب ما أمكن من ترتيبات في ما تبقى من الولاية الرئاسية الأولى لدونالد ترامب، تحسباً لأية متغيرات قد تحملها الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة، خصوصاً أن المستقبل السياسي للرئيس الأميركي الحالي، الذي يمكن اعتباره أحد أكثر الرؤساء تقديماً للخدمات إلى إسرائيل، ما زال غامضاً، في ظل حالة الاستقطاب السياسي الحادة في الولايات المتحدة.
وسواء تعلّق الأمر بـ«صفقة القرن» أو بـ«التصعيد ضد إيران»، يبدو واضحاً أن الإدارة الأميركية الحالية قد اختارت العمل وفق الأجندة الإسرائيلية، إذا ما قارنّا بين ما يسرّب من تفاصيل الخطوات والخطوط العريضة للسياسة الإسرائيلية، لا بل تفاصيل ما يخرج من توصيات عن دوائر صناعة السياسات في تل أبيب.
على هذا الأساس، تبدو «صفقة القرن» في تفاصيلها المسرّبة خطة تجميعية للكثير من الخطط الإسرائيلية، سواء تلك المتعلقة بالنظرة الإسرائيلية لمستقبل ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية، أو في العلاقة النموذجية التي تسعى الدولة العبرية لتكريسها مع دول الجوار، الغارقة في أزماتها الداخلية، وتلك الأبعد –لا سيّما الخليجية منها– التي تدفعها «فوبيا إيران» إلى قرارات متهوّرة من قبيل تكريس التطبيع الكامل مع إسرائيل، برغم إدراكها للمخاطر الاقتصادية والسياسية المترتبة على ذلك.
خدعة القرن
إنّ الخطوط العريضة لـ«صفقة القرن» –أو بعبارة أدقّ «خدعة القرن» وفق توصيف موقع «ميديا بار» الفرنسي الشهير– هي نفسها الخطوط العريضة للخطة الإسرائيلية التي ظلت قائمة منذ سبعين عاماً، والتي ظلّت معطّلة بفعل غياب الإجماع الدولي عليها، الذي يسعى ترامب إلى إحداث القطيعة النهائية معه، خصوصاً في الجوانب الأكثر حساسية، المتصلة بالصراع العربي–الإسرائيلي، من إنكار كافة الحقوق الوطنية المعترف بها للفلسطينيين بموجب الشرعية الدولية، بما في ذلك حق العودة، وصولاً إلى إنهاء مشروع الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
هذه الاندفاعة الأميركية عبّر عنها وزير خارجية ترامب، مايك بومبيو، حين قال في جلسة استماع عقدت مؤخراً في الكونغرس إن «كل ما تمت تجربته من قبل قد فشل، ولذلك أعتقد أن لدينا أفكاراً جديدة ومختلفة»، مشيراً بشكل واضح إلى أن «صفقة القرن» يجب أن تشكل قطيعة مع الإجماع التقليدي حول القضايا الرئيسة مثل القدس والمستوطنات واللاجئين.
وقال الموقع –فيما يشبه السخرية– «لك بعد ذلك أن تتخيل الاتجاهات التي ستملي فيها أفكار ترامب الجديدة والحديثة والمختلفة محتوى صفقة القرن، خاصة أن من يديرون هذا الاتفاق هم أناس عديمو الخبرة دبلوماسياً ولا معرفة لهم بالشرق الأوسط عدا إسرائيل التي يشاركون فيها مالياً في أعمال الاستيطان».
مصيرها الفشل
لعلّ هذه النقطة بالذات تمثل أوّل عوامل الفشل المتوقعة بالنسبة إلى «صفقة القرن»، خصوصاً أن ثمة قناعة راسخة باتت موجودة عند كافة الأطراف الدولية المعنية بعملية السلام أن مقاربة ترامب–كوشنير لقضية على هذا القدر من الحساسية لا يمكن أن تستند إلى منطق «التجارة» الذي بات المحرّك الأساسي للسياسات الأميركية في العهد الترامبي.
على هذا الأساس، ثمة من يتعامل مع «صفقة القرن» باعتبارها مجرّد محاولة لفرض معايير خطيرة لا تنسجم مع الإطار السياسي الذي ظل المحرّك الأساسي لعملية السلام في الشرق الأوسط. ولعلّ الأخطر في ذلك أن «صفقة القرن» قد تمّ اعدادها من قبل مسؤولين أميركيين يفتقدون إلى الخبرة الدبلوماسية، وعلى رأسهم جاريد كوشنر (تاجر العقارات) وجيسون غرينبلات مستشار ترامب الخاص للعلاقات الدولية، وديفيد فريدمان سفير الولايات المتحدة في إسرائيل.
لعلّ المؤشرات بالنسبة إلى ترامب لا تبدو مشجعة، فحتى الرئيس الفلسطيني محمود عباس قطع الاتصال مع الأميركيين منذ الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولذلك اكتفى كوشنر بالتعاون مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومعاونيه في وضع خطتهم للسلام، مع أن العديد من القادة العرب، بمن فيهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وملك الأردن عبد الله الثاني وحكام خليجيون، وخاصة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، صديق كوشنر الشخصي، قدموا لهم بعض الاستشارة.
وإذا كان الفلسطينيون، حتى أولئك المنتمون إلى خيار أوسلو، رافضين لما يحاك من مخططات ضمن «صفقة القرن»، فإنّ ذلك يفقد الخطة المقترحة عنصراً أساسياً، يضاف إليه الرفض المطلق من الجانبين اللبناني والسوري، وهو أمر، برغم أنه قد يبدو هامشياً، لا يمكن تجاوزه خاصة في النقطة المتصّلة بحق العودة، والتي تعد إحدى النقاط الجوهرية في خطة ترامب–كوشنير.
هذا ما يدفع بعض المحللين في أوروبا، على سبيل المثال، إلى أن «صفقة القرن» ماتت قبل أن تولد، ما يشكل تحدياً كبيراً لدونالد ترامب مع بدء الاستعدادات للسباق المحموم إلى البيت الأبيض في مواجهة الديمقراطيين.
إيران
بالرغم من كل ما قدّمه ترامب للإسرائيليين، ابتداءاً بالقدس وليس نهاية بالجولان، إلا أن اللوبي اليهودي في أميركا لا شك أنه سيطلب المزيد. ومن هنا فإنّ فشل «صفقة القرن» قد يدفع ترامب إلى البحث عن خيار آخر لإرضاء الإسرائيليين، ولن يكون أمامه بالتالي سوى التصعيد مع إيران.
من هنا، يمكن فهم الخطوات الأميركية التصعيدية التي تسبق استحقاق أيار، والذي لاحت بوادره في خطوة تصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة «إرهابية». ومع ذلك، فإنّ ذلك قد لا يكون كافياً لإرضاء طمع الإسرائيليين، وبالتالي فإنّ إجراءات أخرى قد تكون قيد التحضير تجاه الجمهورية الإسلامية.
ومع ذلك أيضاً، لا يبدو الرئيس الأميركي متحرراً من المأزق الإسرائيلي في ما يخص الملف الإيراني، فبالرغم من أن الطموحات الجوهرية لنتنياهو تكمن في الرغبة بشن عمل عسكري ضد إيران، إلا أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للمخاطرة بسيناريو من هذا القبيل، وقد نأى ترامب بنفسه عن الحرب المسلحة، لكونه يدرك تماماً التأثيرات المحتملة لحرب من هذا القبيل، لا سيما على مستقبله السياسي.
من هنا، فإنّ كل أشكال التصعيد الأميركي لا يمكن أن تتجاوز ما بات يسمى «سياسة الضغوط القصوى على إيران»، ولكن ترامب يحتاج إلى تفعيل هذه السياسة، حتى لا يحرج نفسه سياسياً في الحملة الانتخابية المقبلة، التي ستبدأ في وقت لاحق من هذا العام لإعادة انتخابه في عام 2020.
بين التراجع والجنون
يمكن توقع إجراءات أكثر قسوة من الجانب الأميركي على الجمهورية الإسلامية، ولكنّ ذلك لن يغير كثيراً من المعادلات القائمة حالياً، فأقصى ما يمكن أن تفرضه إدارة ترامب من إجراءات هو تشديد العقوبات، وهي برغم كونها السلاح المفضل لدى ترامب، إلا أن تجارب عدّة شهدها العالم مؤخراً (ابتداءً من إيران، مروراً بروسيا، وصولاً إلى فنزويلا) تظهر أن تلك السياسة بدأت تفقد نجاعتها، لا بل أن ثمة تحذيرات من تأثيراتها السلبية على الولايات المتحدة نفسها، وآخرها تحذير صحيفة «نيويورك تايمز» من حصول ارتباك في أسواق النفط العالمية في ظل حديث الإدارة عن نيّتها تصفير صادرات النفط الإيرانية وتشديد العقوبات على إيران وفنزويلا، العضويْن في منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك»، وهو ما سينعكس اشتداداً في التوتّرات مع الصين والهند وارتفاع أسعار الوقود في الولايات المتحدة.
هنا يبقى السؤال المحوري في ظل الجمود القائم حول الطريقة التي يمكن لترامب أن يلجأ إليها للخروج من المأزق. الإجابة بسيطة للغاية، فترامب اليوم أمام خيار من اثنين، إما التراجع، وبالتالي التركيز على مشاكل الداخل الأميركي… وإما الجنون الذي يدخل أميركا في مستنقعات خطيرة، تجعل الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة أقرب إلى مقامرة «صولد» نهائي.
Leave a Reply