يحار المرء فعلاً في توصيف أداء الرئيس دونالد ترامب، الذي يبدو في كثير من الأحيان، وكأنه يدير البلاد كما لو أنه ما يزال يخوض حملته الانتخابية، فالرجل يبدو مصاباً بعقدة تسجيل النقاط، والأهداف في الشباك الفارغة. في مؤتمر صحفي عقده في البيت الأبيض تعليقاً على إلقاء الولايات المتحدة لأكبر قنبلة لديها غير نووية فوق أفغانستان، قال: إذا نظرتم إلى ما تم خلال الأسابيع الثمانية الماضية (يقصد منذ تسلمه الحكم) وقارنتم ذلك بما تم فعله خلال السنوات الثماني الماضية (في إشارة إلى ولايتي حكم باراك أوباما) فستجدون أن هنالك فرقاً هائلاً جداً.
ولا نعرف حتى الآن ما هو ذلك «الفرق الهائل جداً» الذي يريد ترامب أن يبيعه للأميركيين الذين وعدهم «بأميركا عظيمة مجدداً»، كما أننا لا نعرف فيما إذا كان الفرق الذي تحدث عنه الرئيس الأميركي يشبه الفرق الذي أراد أن يحدثه في سوريا، من خلال قصف مطار الشعيرات بـ59 صاروخاً من طراز توماهوك، تصل كلفتها إلى أكثر من 35 مليون دولار، ليعاود الجيش السوري استخدام المطار في اليوم التالي من خلال شن طلعات جوية من المطار نفسه على المجموعات الإرهابية، في تأكيد بالغ الدلالة على أن تلك الضربة الصاروخية، التي هلل لها الإعلام الأميركي –وترامب كذلك– لم تحدث أي فرق يذكر ميدانياً، لا في تحجيم قوة الجيش السوري، ولا في تغيير موازين القوى العسكرية على الأرض، والتي لا تزال كفتها ترجح لصالح الجيش العربي السوري الذي من المفترض أن يكون حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة في حال صدقت المواقف المعلنة من الإدارة الأميركية الجديدة، ومن ترامب نفسه، بجعل القضاء على «داعش» أولوية السياسة الخارجية.
وبالعودة إلى «أم القنابل» التي تزن أكثر من 10 أطنان، والتي ألقتها مقاتلة أميركية على موقع لتنظيم داعش الإرهابي بولاية ننغرهار، شرقي أفغانستان، في أول استخدام لهذة القوة التدميرية الهائلة بمهمة قتالية، فالرئيس الأميركي يعلم أن إلقاء القنابل المدمرة لن يشكل «رسالة عاقلة» إلى كوريا الشمالية التي يقول ترامب إنها «مشكلة سنتولى أمرها»، قبل أن يكتشف الحاجة الملحة للتعاون مع بكين ليبلع تصريحاته الانتخابية السابقة التي كان يلوح خلالها بشن حرب تجارية على الصين حماية للعامل الأميركي، بعد أن تبين له أن الصين هي القادرة على حماية أميركا من صواريخ بيونغ يانغ، وليس القوة العسكرية التي ظن أنه بالإمكان استخدامها للتعامل مع الأزمة الكورية بشكل منفرد.
وكما أن دمشق لم ترتعد فرائصها من حملة التوماهوك الصاروخية، كذلك فإن بيونغ يونغ لم تتغافل عن الرسائل المحتملة التي قد ينطوي عليها إلقاء «أم القنابل»، إذ سرعان ما بادرت وسائل إعلام رسمية في العاصمة الكورية الشمالية إلى تحذير أميركا من «ضربة وقائية مهولة».
فقد أعلنت صحيفة «رودونغ سينمون»، وهي الصحيفة الرسمية لحزب العمال الحاكم في كوريا الشمالية، أنه: «في حال توجيه ضربتنا الوقائية المهولة فلن تمحو فقط القوات الغازية الإمبريالية الأميركية تماماً، وعلى الفور في كوريا الجنوبية والمناطق المحيطة بها، بل في الأراضي الأميركية ذاتها وتحولها إلى رماد».
ومن كوريا الشمالية إلى إيران، حيث أعلنت إدارة ترامب أنها بصدد مراجعة الاتفاق النووي مع طهران والذي لطالما تعهد الرئيس الأميركي خلال جولاته الانتخابية المكوكية بإلغائه، لكنه سيكتشف قريباً أن الاتفاق الذي توصلت إليه إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ليس إلا بداية لمحاولة تطبيع العلاقات الغربية مع إيران بعد أن فشلت معها سياسات الحصار والعقوبات، فكان لا بد من الانتقال إلى الحوار، حتى لا تصل الأمور إلى التصادم الحتمي والحرب الشاملة.
سيدرك ترامب أن إلغاء هذا الاتفاق كفيل بإعادة الأمور إلى نقطة الصفر، أي العودة إلى لغة التصعيد والحرب وما تحمله من مخاطر لا يمكن حصرها وإدراك أبعادها التدميرية. فهل سيعترف بأن الاتفاق النووي الذي أبرمته بلاده وخمس دول أخرى (بريطانيا والصين وفرنسا وروسيا وألمانيا) مع إيران في تمور (يوليو) 2015، كان أفضل الممكن أم أنه سيسمح باستدراج الولايات المتحدة إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط؟
ليس خافياً أن ترامب لن يكون بإمكانه تنفيذ معظم وعوده الانتخابية، وقد خسر حتى الآن معارك أساسية في هذا المجال، أبرزها صمود قانون الرعاية الصحية (أوباماكير) في الكونغرس، وتجميد أوامره الرئاسية بشأن دخول المهاجرين واللاجئين بمطرقة القضاء الفدرالي.
فـ«أوباماكير» الذي وصفه ترامب خلال حملته الانتخابية بأنه «كارثي» وتوعد باستبداله بـ«أفضل خطة رعاية صحية واجتماعية ممكنة»، لم يطرح على التصويت في الكونغرس، بعد أن فشل ترامب بجمع الأصوات الكافية في الكونغرس رغم سيطرة الجمهوريين عليه، فكان تعليقه: من الأفضل سياسياً ترك «أوباماكير» لعام آخر، ليثبت فشله!
على مشارف انقضاء المئة يوم الأولى من حكم ترامب، يثبت الرئيس أن الولايات المتحدة هي مثل أية امبراطورية أخرى في التاريخ، كلما ازدادت حدة أزماتها الداخلية، ازدادت وتيرة حروبها واستعدائها للآخرين خارج حدودها. وهذا ما أكده ترامب الذي يتعرض منذ توليه منصبه لضغوطات داخلية في أكثر من ملف، قام خلال أيام معدودات بصرف النظر عنها بقصف مطار عسكري في سوريا، وإلقاء أكبر قنبلة غير نووية فوق أفغانستان، والتهديد بإخراج «المارد الكوري» النووي من قمقمه.. الذي لو خرج فلن يبقى شيء في مكانه.
يتبين تباعاً أن وعود ترامب الانتخابية ليست إلا كلاماً فارغاً، كما أن مواقفه الرئاسية لا تبدو أكثر قيمة، بإصراره على التعامل مع القضايا العامة والدولية كتعامل رجال الأعمال مع البزنس. فللدول والشعوب كرامات، أما الشركات فلا كرامة لها.
Leave a Reply