لوس أنجليس
بقبضة حديدية، قرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب مواجهة الاحتجاجات الشعبية ضد حملة الاعتقالات الموسعة التي تشنها شرطة الهجرة والجمارك (آيس) بحق المهاجرين غير الشرعيين، زاعماً أنه لولا إرسال قوات عسكرية من مشاة البحرية (المارينز) والحرس الوطني إلى لوس أنجليس، «لكانت هذه المدينة الجميلة والعظيمة قد احترقت بالكامل».
وبغض النظر عن مدى قانونية وضرورة الاستعانة بالجيش، أكد ترامب من خلال إجراءاته السريعة تصميمه الكبير على التصدي لأية محاولة لعرقلة جهود «آيس»، مشدداً على أن استطلاعات الرأي تظهر دعماً شعبياً ساحقاً لترحيل المهاجرين غير النظاميين، فضلاً عن «التفويض التاريخي» الذي منحه إياه الناخبون الأميركيون في انتخابات 2024 لتنفيذ أكبر برنامج للترحيل الجماعي، حسب تعبيره.
وبحسب ترامب، سمح الرئيس السابق جو بايدن لحوالي 21 مليون مهاجر غير نظامي بالتدفق على البلاد من «بعض أخطر الدول وأكثرها اختلالاً»، زاعماً أن المهاجرين غير النظاميين سرقوا وظائف الأميركيين واستهلكوا مليارات الدولارات من الرعاية الاجتماعية، وحولوا «مجتمعات كانت مثالية ذات يوم إلى مجتمعات من العالم الثالث».
وكان ترامب قد قرر إرسال أربعة آلاف جندي من الحرس الوطني في كاليفورنيا –رغماً عن إرادة حاكم الولاية غافين نيوسوم– وتعزيزهم لاحقاً بـ700 جندي إضافي من قوات المارينز، لحماية المباني الفدرالية في لوس أنجليس وتأمين عمل عناصر «آيس» في المنطقة، بعد قيام نشطاء –صباح الجمعة 6 حزيران (يونيو) الجاري– بمنع عناصر «آيس» من تنفيذ اعتقالات بحق مهاجرين غير شرعيين في ضاحية باراماونت.
غير أن خطوات ترامب التصعيدية، لم تنجح في إخماد وتيرة الاحتجاجات التي استمرت على مدار الأسبوع الماضي في ثاني كبرى مدن الولايات المتحدة، بالتوازي مع تمددها إلى عدة مدن كبرى أخرى، أبرزها، نيويورك وشيكاغو.
وترافقت الاحتجاجات في لوس أنجليس مع أعمال شغب ونهب وقطع طرقات واعتداءات على سيارات إنفاذ القانون وحرقها، فضلاً عن حرق الأعلام الأميركية، في مشهد لم يخدم خصوم ترامب الذين سارعوا إلى اتهامه بتصعيد الأزمة عبر ممارسة الفاشية والديكتاتورية وتجاوز صلاحياته الرئاسية.
أثارت مشاهد المتظاهرين وهم يلوّحون بالأعلام المكسيكية خلال احتجاجات لوس أنجليس، موجة من الجدل على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً في الأوساط المحافظة، التي اعتبرت هذه الأعلام «دليلاً على عدم وطنية».
كما أثارت معدات مكافحة الشغب الغامضة التي تم توزيعها على المتظاهرين في لوس أنجليس يوم الاثنين الماضي تساؤلات حول الجهات المسؤولة عن توفيرها والهدف من استخدامها. وهدأت وتيرة أعمال الشغب نسبياً في لوس أنجليس مع فرض حظر تجول ليلي في وسط المدينة، كما قامت الشرطة باعتقال مئات المحتجين.
وأعلنت شرطة المدينة التي تضم زهاء أربعة ملايين نسمة، أنها نفذت نحو 400 اعتقال منذ السبت الماضي، معظمها بسبب رفض المحتجين مغادرة المناطق المحظورة، في حين وُجهت تهم خطيرة لعدد محدود من المعتقلين، بينها الاعتداء على عناصر الشرطة، وحيازة أسلحة نارية وزجاجات حارقة.
وتُعد لوس أنجليس موطناً لعدد كبير من السكان من أصول لاتينية، وهم يشكلون ما يقارب نصف السكان. وفي مؤتمر صحفي، أعربت رئيسة البلدية، كارين باس، عن قلقها من عسكرة الأزمة، قائلة «أريد التحدث إلى الرئيس.. أريد أن يفهم أهمية ما يحدث هنا»، مؤكدة أن الأزمة «صُنعت في واشنطن» وأن المداهمات التي بدأت في 6 يونيو الحالي كانت السبب الرئيسي في تصاعد التوتر.
في المقابل، قالت وزارة الأمن الداخلي إن مثيري الشغب في لوس أنجلوس لن يوقفوا عمليات سلطات الهجرة، في إشارة إلى الجهود المنظمة التي تبذل لعرقلة المداهمات من خلال تطبيقات هاتفية ورسائل نصية تدعو إلى التجمهر في أماكن محددة لإحباط عمليات الاعتقال. وأضافت أن من يعرقل عمليات سلطات الهجرة ينحاز للعصابات وتجار البشر والمجرمين العنيفين، على حد تعبيرها.
وبحسب وزارة الأمن الداخلي، رفعت «آيس» وتيرة الاعتقالات لتصل إلى أكثر من 2,000 شخص يومياً، وهو ما يفوق بكثير، المتوسط اليومي البالغ 311 شخصاً في السنة المالية 2024 في عهد الرئيس السابق، ولكنه يظل أقل بكثر من مستهدف ترامب الذي يسعى إلى ترحيل الملايين خلال ولايته الرئاسية.
وقال ترامب إنه لا يريد حرباً أهلية، مستدركاً بأن احتجاجات لوس أنجليس «كان من الممكن أن تؤدي إلى تمرد».
ومن المتوقع أن تتصاعد وتيرة الاحتجاجات السبت المقبل ضمن حركة «لا ملوك» No Kings، بالتزامن مع عرض عسكري نادر في العاصمة واشنطن بمناسبة مرور 250 عاماً على تأسيس الجيش الأميركي، والذي يصادف أيضاً عيد ميلاد ترامب الـ79.
مواجهة قانونية وسياسية
في الأثناء، بدأت ولاية كاليفورنيا، الخميس الماضي، مواجهة قانونية مع الحكومة الفدرالية، حيث نجح محامو الولاية باستصدار أمر قضائي من محكمة فدرالية أولية يمنع الجنود من مرافقة عناصر «آيس» أثناء تنفيذ عمليات التوقيف، غير أن محكمة الاستئناف الفدرالية قررت تعليق القرار الذي وصفه محامو إدارة ترامب بأنها «مناورة سياسية مبتذلة».
وأعرب زعماء الحزب الديمقراطي عن مخاوفهم بشأن حدوث أزمة وطنية بسبب أحداث لوس أنجليس التي أصبحت أشد بؤرة اشتعال حتى الآن في جهود إدارة ترامب لترحيل المهاجرين الذين يعيشون في البلاد بشكل غير قانوني، والإجراءات الصارمة التي يتم اتخاذها ضد المعارضين الذين ينزلون إلى الشوارع احتجاجاً على ما يحدث.
في الإطار ذاته، انتقد حاكم كاليفورنيا غافين نيوسوم إجراءات ترامب، وقال إن «الديمقراطية تتعرض لهجوم أمام أعيننا، حانت اللحظة التي نخشاها»، معتبراً أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها ترامب ضد الاحتجاجات تمثل بداية لهجوم أوسع على المعايير السياسية والثقافية التي تدعم الديمقراطية الأميركية.
وأضاف نيوسوم الذي يُنظر إليه كمرشح ديمقراطي محتمل في سباق الرئاسة 2028 أن «نشر الحرس الوطني ومشاة البحرية لم يكن بهدف قمع الاحتجاجات فحسب، بل هو حرب متعمدة لزعزعة المجتمع وتركيز السلطة في البيت الأبيض»، محذراً من أن كاليفورنيا قد تكون البداية، لكن ولايات أخرى ستتبعها.
ورغم محاولة نيوسوم وقف استخدام القوات الفدرالية في قمع الاحتجاجات عبر طلب قضائي عاجل، فإن قاضياً فدرالياً رفض هذا الطلب، مانحاً إدارة ترامب مزيداً من الوقت للرد على الدعوى.
أعرب البيت الأبيض عن رفضه لتصريحات حاكم ولاية كاليفورنيا بأن ترامب تسبب في تصعيد الأزمة، وقالت المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض كارولين ليفات: «لم يفعل غافين نيوسوم شيئاً بينما شهدت لوس أنجليس أياماً من أعمال الشغب العنيفة».
ووسط هذا المشهد المحتقن، تتزايد المخاوف من أن تتحول الأزمة إلى مواجهة سياسية وقانونية طويلة الأمد، في ظل اتهامات متبادلة بين البيت الأبيض وحكومات الولايات، وقلق متصاعد من تأثير عسكرة الشوارع على الحريات المدنية والديمقراطية الأميركية.
وقالت وكالة «رويترز» إنه مع تصاعد الأوضاع في لوس أنجليس وفرض حظر التجول بعد نشر قوات الحرس الوطني والمارينز تستعد عدة مدن أميركية أخرى لتنظيم احتجاجات كبيرة ضد مداهمات الهجرة، تضامناً مع ما تشهده لوس أنجليس.
واستنكر حكام 22 ولاية أميركية قرار الرئيس ترامب إرسال الجيش إلى ولاية كاليفورنيا لاحتواء أعمال الشغب. وقال الحكام الديمقراطيون في بيان مشترك إن «قرار ترامب نشر الحرس الوطني في كاليفورنيا تجاوز صلاحيات مثيرٌ للقلق». ومن بين الموقعين على البيان حكام ويسكونسن وكنساس وكنتاكي ومينيسوتا وميشيغن وبنسلفانيا ونيويورك وأوريغون وغيرها من الولايات.
Leave a Reply