واشنطن، أنقرة – بعد أسبوع صاخب سياسياً في واشنطن، تعرض خلاله الرئيس الأميركي دونالد ترامب لشتى أنواع الضغوط من أجل دفعه إلى التراجع عن قراره المفاجئ بسحب القوات الأميركية من شمال سوريا، تمكن سيد البيت الأبيض من الخروج بانتصار سياسي أحرج به الكثيرين، بإعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الخميس الماضي، عن وقف عملية «نبع السلام» العسكرية التي كان قد أطلقها ضد الأكراد وأثارت موجة تنديد أميركية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء.
رحب ترامب بإعلان «وقف لاطلاق النار» في شمال سوريا، معتبراً أنه «يوم عظيم» للولايات المتحدة وتركيا والأكراد. وذلك بعد نجاح نائبه مايك بنس بالتوصل إلى اتفاق مع الرئيس التركي بوقف العمليات العسكرية للسماح لقوات «قسد» بالانسحاب خلال 120 ساعة.
وكان ترامب قد أوفد نائبه مايك بنس ووزير خارجيته مايك بومبيو إلى تركيا للتفاوض حول وقف لإطلاق النار في شمالي سوريا، تحت طائلة فرض عقوبات إضافية على أنقرة.
وأوضح بنس في ختام مهمته إلى أنقرة، أن البلدين ملتزمان بالتوصل إلى اتفاق سلمي بشأن المنطقة الآمنة في سوريا، وأن الاتفاق مع تركيا سينهي العنف فيما ستدوم العلاقات الأميركية مع الكرد.
وأضاف أن انسحاب القوات الكردية قد بدأ بالفعل، وواشنطن بدأت بتسهيل انسحاب آمن لها، وتعمل معها لانسحاب بعمق 20 ميلاً من الحدود، وستنتهي كل العمليات العسكرية التركية مع اكتمال انسحاب قوات قسد.
وبحسب بنس فإن أميركا تلقت ضمانات من وحدات حماية الشعب بالانسحاب المنظم.
ووافق الرئيس الأميركي دونالد ترامب على سحب العقوبات الاقتصادية عن تركيا بعد تنفيذ الاتفاق، وأكد نائبه أنه لم يتم تقديم أي عرض لتركيا باستثناء رفع العقوبات في مقابل وقفها للعمليات العسكرية.
وتضمنت بنود الاتفاق الأميركي التركي حول شمال سوريا، التزام الجانب التركي ضمان أمن وسلامة المواطنين في المنطقة الآمنة، فيما يؤكد الطرفان التزامهما بالوحدة السياسية والجغرافية لسوريا والعملية السياسية.
من جهته، أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو أنه تم الاتفاق مع واشنطن على تجريد «قسد» من أسلحتها الثقيلة وتدمير مواقعها، وأن تكون المنطقة الآمنة في سوريا تحت سيطرة القوات التركية، مؤكداً أن «زيارة أردوغان إلى واشنطن لا زالت في موعدها»، بعد أن كان البيت الأبيض قد هدد باحتمال إعادة النظر بلقاء ترامب وأردوغان «إذا لم يلتزم الأخير بالشروط المتعلقة بالتوغل في سوريا».
وبدوره، اعتبر الرئيس الأميركي أن وقف إطلاق النار في شمال سوريا قد أنقذ حياة الكرد، وأنهم باتوا اليوم أكثر ميلاًَ نحو القيام بما ينبغي فعله، مشيراً إلى أن العقوبات على تركيا لم تعد ضرورية بعد الآن.
وكانت واشنطن قد فرضت حزمة عقوبات على تركيا تشمل منع وزراء من دخول واشنطن، وهددت بعقوبات إضافية أشد قسوة في حال لم توافق أنقرة على وقف اطلاق النار في شمالي سوريا.
كما هدد ترامب بأن «العقوبات على تركيا ستكون مدمرة إذا لم ينجح اللقاء بين بنس وأردوغان»، وذلك قبل أن يتوجه الرئيس الأميركي بالشكر إلى نظيره التركي واصفاً إياه بـ«الرجل القوي والذي قام بما هو صائب»، معلناً أنه بسبب الاتفاق يمكن إعادة معظم القوات الأميركية إلى بلادهم.
وكان البيت الأبيض قد نشرالأربعاء الماضي، رسالة أرسلها ترامب لأردوغان في 9 تشرين الأول (أكتوبر) في محاولة لإقناعه بالتراجع عن قرار العدوان على الشمال السوري، وجاء كشف ترامب عن الرسالة رداً منه على اتهامه بالتخلي عن الأكراد وإعطاء ضوء أخضر لإبادتهم من قبل الأتراك.
وفي الرسالة التي أرسلها إليه في نفس اليوم الذي شنت فيه تركيا هجومها في شمال سوريا كتب ترامب لنظيره التركي «لا تكن أحمقاً»، منبهاً إياه من أنه يخاطر بأن يذكره التاريخ كــ«شيطان».
وفي لهجة تخلو من المجاملات الدبلوماسية، بدأ ترامب رسالته بتهديد صريح، وقال: «أنت لا تريد أن تكون مسؤولاً عن ذبح الآلاف من الناس، وأنا لا أريد أن أكون مسؤولاً عن تدمير الاقتصاد التركي… وسأفعل ذلك».
وتابع: «سوف ينظر إليك التاريخ بشكل إيجابي إذا قمت بذلك بطريقة صحيحة وإنسانية، وسوف ينظر إليك الى الأبد كشيطان إذا لم تحدث الأمور الجيدة».
وكان وزير الدفاع الأميركي، مارك أسبر، قد أعلن الأحد الماضي، أن الرئيس ترامب أمر بسحب نحو ألف جندي من شمال سوريا بعد نقاشات مع باقي أعضاء فريق الأمن القومي.
وقال أسبر لـ«سي بي أس»: «نجد أن لدينا قوات أميركية عالقة على الأرجح بين جيشين في حالة مواجهة يتقدمان وهو وضع لا يمكن السماح باستمراره»، لافتاً إلى أن عدد العناصر الذين سيتم سحبهم هو «أقل من ألف».
وكانت أنقرة قد بدأت في التاسع من أكتوبر، هجوماً واسعاً على مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) شمال شرقي سوريا، فيما قال الرئيس التركي إن الهدف من العملية هو تدمير «ممر الإرهاب» على الحدود الجنوبية لتركيا، وإقامة منطقة عازلة تنقل إليها 2 مليون لاجئ سوري موجودين على أراضيها.
وتشكل «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي تعتبرها أنقرة جماعة إرهابية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، عنصراً أساسياً في «قسد»، حليفة واشنطن.
وجرى إطلاق هذه العملية، التي تعتبر الثالثة لتركيا في سوريا، بعد أشهر من مفاوضات غير ناجحة بين تركيا والولايات المتحدة حول إقامة «منطقة آمنة» شمال شرقي سوريا لحل التوتر بين الجانب التركي والأكراد سلميا، لكن هذه الجهود لم تسفر عن تحقيق هذا الهدف بسبب خلافات بين الطرفين حول عمل هذه الآلية.
وأدت المواجهات بين المقاتلين الأكراد والقوات التركية والفصائل التي تدعمها إلى مقتل عشرات الأشخاص معظمهم في الجانب الكردي، ونزوح 160 ألف شخص على الأقل، بحسب الأمم المتحدة.
ودافع ترامب، بشدة عن قراره بسحب القوات الأميركية من سوريا، قائلاً: «إنه لا ينبغي على واشنطن أن تحرس الحدود السورية التركية في الوقت الذي لا تستطيع فيه حماية حدودها، على حد وصفه.
وكانت الولايات المتحدة أبرز الداعمين لقوات سوريا الديمقراطية، ذات الغالبية الكردية، والتي قاتلت تنظيم «داعش» ونجحت في استعادة الكثير من الأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا، كما أنها تعتقل الآن نحو 12 ألفاً من عناصر «داعش» وعائلاتهم.
مكاسب للجيش السوري
دخل الجيش السوري مدينة عين العرب (كوباني) بموجب اتفاق مع الأكراد رعته روسيا، مستغلاً التغيرات الميدانية التي أحدثتها العملية العسكرية التركية شمال شرقي سوريا.
ووسع الجيش السوري انتشاره على أكثر من جبهة، في المناطق التي خضعت لسنوات لقوات «قسد»، بموجب اتفاق حدد ملامح المرحلة المقبلة. وتشير آخر التطورات الميدانية إلى دخول الجيش السوري إلى كوباني ومنبج والرقة والطبقة وأريافها، وهي مناطق سيطر عليها تنظيم «داعش» لسنوات قبل أن تسيطر عليها «قسد».
وبدا أردوغان شبه مرتاح لدخول قوات الجيش السوري إلى منبج تلبية لنداء وجهه الأكراد لدمشق منعاً لسيطرة تركيا على المدينة. وقال في هذا الإطار إن «دخول النظام إلى منبج ليس تطوراً سلبياً جداً بالنسبة لنا. لماذا؟ لأنها أرضهم»، مشدداً على أن ما يهم أنقرة هو القضاء على تهديد المقاتلين الأكراد وأن منبج لم تعد بأيدي الوحدات الكردية.
ويمثل نشر القوات السورية نصراً كبيراً للرئيس بشار الأسد وروسيا حليفته الرئيسية، اللذين استعادا السيطرة على مساحات كبيرة من أراضي البلاد كانت خارج سيطرتهما.
كما سيطر الجيش السوري على قواعد عسكرية كانت القوات الأميركية قد غادرتها مع بدء العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، بينما استولت القوات التركية والفصائل الموالية لها خلال أسبوع من الهجوم، على منطقة حدودية تمتد نحو 120 كيلومترا بين محيط بلدة رأس العين (شمال الحسكة) ومدينة تل أبيض (شمال الرقة).
صراع داخلي في واشنطن
وصفت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي وزعيم الديمقراطيين بمجلس الشيوخ تشاك شومر، الاتفاق بين الولايات المتحدة وتركيا لوقف هجوم أنقرة في شمال شرق سوريا، بأنه «عار».
وقالت بيلوسي وشومر في بيان إن الاتفاق «يقوض بشكل خطير مصداقية السياسة الخارجية الأميركية ويبعث برسالة خطيرة لحلفائنا وأعدائنا على حد سواء بأنه لا يمكن الوثوق في كلامنا. الرئيس (التركي) أردوغان لم يتخل عن شيء والرئيس ترامب قدم له كل شيء».
ومنذ إعلان قراره بسحب القوات من شمال سوريا، تعرض دونالد ترامب، لحملة انتقادات وضغوط واسعة من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء لدفعه إلى التراجع عن خطوته التي وصفت بأنها «خيانه للحليف الكردي».
وبلغت الضغوطات ذروتها، الأربعاء الماضي، بتصويت بأغلبية ساحقة في مجلس النواب الأميركي لصالح قرار غير ملزم بإدانة خطوة ترامب، وذلك قبل ساعات قليلة من لقاء عاصف عُقد في البيت الأبيض وانتهى سريعاً بانسحاب بيلوسي منه بعد مواجهة محتدمة بينها وبين ترامب.
ونصّ القرار الذي نال أغلبية 354 صوتاً مقابل 60 صوتاً، على أن مجلس النواب «يعارض قرار إنهاء بعض جهود الولايات المتحدة لمنع العمليات العسكرية التركية ضد القوات الكردية السورية في شمال شرق سوريا».
ودعا القرار، الرئيس التركي إلى «وقف العمل العسكري الأحادي فوراً» في المنطقة، وحض على استمرار الدعم الإنساني الأميركي للمجتمعات الكردية السورية.
وقالت بيلوسي إن ترامب صُدم من عدد الجمهوريين الذين صوتوا لصالح القرار، مشيرة إلى أن الرئيس الأميركي لم يقدم خطة لاحتواء مقاتلي تنظيم «داعش»، وذلك عقب اجتماع مختصر انسحبت منه الزعيمة الديمقراطية بسرعة بعد ساعات قليلة من إجراء التصويت في مجلس النواب.
وفي معرض تبرير انسحابها من الاجتماع، ذكرت بيلوسي أن اللقاء مع ترامب في البيت الأبيض جرى اختصاره بعدما «انفجر ترامب غضباً» بسبب نتائج التصويت في مجلس النواب.
وقالت: «أعتقد أن التصويت –حجم التصويت ومعارضة أكثر من اثنين إلى واحد من الجمهوريين ما فعله الرئيس– أثر على الرئيس على الأرجح لأن ذلك أصابه بصدمة». وأضافت «لهذا لم نتمكن من مواصلة الاجتماع لأنه انفصل عن الواقع».
أما شومر فقال للصحفيين بأن ترامب أهان بيلوسي، وقال إنها «سياسية من الدرجة الثالثة».
في المقابل، شجب السناتور الجمهوري البارز كفين مكارثي تصرف رئيسة مجلس النواب خلال الاجتماع، مؤكداً أن النقاش أصبح أكثر فعالية بعد انسحابها منه، كما حرص على الثناء على المشرعين الديمقراطيين الذين واصلوا الاجتماع من دونها.
من جهته، قال ترامب إن بيلوسي هي التي غضبت وخرجت عن طورها تماماً، وأرفق بتغريدته صورة سبقته بيلوسي في نشرها عبر حسابها في «تويتر» تظهر مواجهة محتدمة بينهما أثناء الاجتماع.
وفي تغريدة أخرى اتهم ترامب قادة الديمقراطيين بأنهم هم من غادروا القاعة في حالة من الغيظ، وأرفق أيضاً بتغريدته صورة تظهر مقاعدهم شاغرة.
Leave a Reply