أكثر من 9 أشهر مضت حتّى الآن على وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، لم يستطع خلالها تنفيذ العديد من وعوده وتعهّداته الانتخابية. وربّما هو ذلك أيضاً حال من سبقه في موقع الرئاسة الأميركية، حيث الفارق كبير بين قيادة الحملة الانتخابية وبين الرئاسة والحكم. لكن ترامب وعد مؤيديه في العام الماضي بما هو أعجز عن تحقيقه، وبما يُعتبر خروجاً عن المصالح العليا للدولة الأميركية، هذه المصالح التي تحدّدها مؤسّسات وقوى فاعلة في الولايات المتحدة، والتي لا ترتبط بأشخاص يتغيّرون في إدارة السلطة التنفيذية.
الملفت للانتباه أنّ من سبق ترامب من الرؤساء الأميركيين كانوا يتكيّفون مع موقعهم الرئاسي ومقتضياته، بينما نجد ترامب يخالف الكثير من التقاليد في حكم البيت الأبيض، ويجاهر علناً بخلافه حتّى مع من هم في إدارته، كما حدث مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون بشأن السياسة الأميركية تجاه كوريا الشمالية. أيضاً، يتحدّث ترامب علناً ضدّ أعضاء في حزبه الجمهوري، وضدّ قضاة وضدّ مؤسسات إعلامية لمجرّد اختلافهم معه، وهو بذلك يسيء لحزبه الذي ترّشح باسمه، وللفصل القائم بين السلطات، ولحرية الإعلام، وللبند الأول في التعديل الدستوري الأميركي الذي يصون حرّية التفكير والتعبير والانتقاد.
ولعلّ ما تعيشه الولايات المتّحدة الآن من تناقضات سياسية لا ينفصل عمّا هو عليه ترامب شخصياً من أسلوبٍ في الحكم، ومن تورّطٍ قد حصل بين حملته الانتخابية وبين جهاتٍ روسية دعمت ترشيحه، إضافةً إلى أجندة داخلية وخارجية يصرّ ترامب على تنفيذها، وهي بمعظمها تتّصل بوعودٍ أطلقها خلال الحملات الانتخابية، ولاقت تأييداً من جماعاتٍ محافظة وعنصرية داخل المجتمع الأميركي. وهذه الجماعات تُشكّل القاعدة الشعبية له، والتي يريد الحفاظ عليها كأداة ضغطٍ على من يختلفون معه داخل حزبه وخارجه.
لكن، ولأسبابٍ عديدة، فإنّ ترامب لن ينجح في تحقيق برنامجه، وستزداد القوى المعارضة لهذا البرنامج حتّى في وسط أعضاء الحزب الجمهوري، كما حدث مع مشروع إلغاء قانون الرعاية الصحية المعروف باسم «أوباماكير»، وكما جرى أيضاً مع مراسيم حظر السفر من بعض الدول الإسلامية، وما يحصل الآن بشأن قانونٍ جديدٍ للضرائب. أمّا في قضايا متّصلة بالسياسة الخارجية، فنجد أيضاً عجز ترامب عن تنفيذ تعهّده بإلغاء الاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، وكذلك ما طالب به خلال حملاته الانتخابية من إجبار المكسيك على دفع تكاليف بناء جدارٍ على الحدود معها، وحتّى تعهّده بنقل السفارة الأميركية إلى القدس لم يُقدِم عليه بعد، بسبب اعتراض المؤسّسات الأميركية الأمنية والسياسية على مثل هذه الخطوة حاليّاً.
ومن الأقوال «الترامبية» الانتخابية، التي لم تتحوّل إلى أفعال، التهديدات بإنهاء حلف «الناتو» وكذلك المواقف المتشدّدة تجاه الصين، خاصّةً في الجانب الاقتصادي والمالي، حيث نرى ترامب مؤخّراً يشيد بالصين وبدورها في معالجة الأزمة مع كوريا الشمالية، هذ الأزمة التي أظهرت أيضاً عمق الهوّة بين أقوال ترامب وبين ما تقوم به إدارته من أفعال مخالفة لأقواله. فالرئيس الأميركي هدّد وتوعّد زعيم كوريا الشمالية، بينما أكّد وزيرا الخارجية والدفاع على أهمّية استمرار العمل الدبلوماسي، وتجنّب التصعيد العسكري في شبه الجزيرة الكورية.
إنّ فترة الأشهر القليلة التي قضاها دونالد ترامب حتّى الآن في البيت الأبيض كانت كافية لكي يُدرك معظم من راهنوا عليه بخطأ مراهنتهم، فلا هو يتمتّع بالمؤهّلات الشخصية لموقع الرئاسة الأميركية، ولا هو بقادر على مواجهة ما يحيط به حاليّاً من تحقيقاتٍ قانونية تطال أركاناً بارزين في حملته الانتخابية، وربما ستطيح أيضاً بترامب نفسه، رغم حجم التأييد الذي لاقاه من قواعد شعبية للحزب الجمهوري في عدّة ولايات، ومن بعض الأميركيين غير المنتمين لأي حزب.
لقد اشترك الحزبان الجمهوري والديمقراطي في خروج القاعدة الشعبية لدى كلٍّ منهما عن رغبات القيادات التقليدية، حيث ظهر دونالد ترامب في الحزب الجمهوري، وبيرني ساندرز في الحزب الديمقراطي، وكان الأوّل تعبيراً عن هيمنة تيّار يميني متهوّر عند الجمهوريين، والثاني (أي ساندرز) كان تأكيداً لقوة تيّار يساري متنوّر ظهر عند الديمقراطيين منذ المؤتمر الحزبي في العام 2004، وتكرّس بفوز أوباما في العام 2008.
ومن المهمّ أن يُدرك العرب عموماً أنّ هناك متغيّراتٍ جارية في الحياة السياسية الأميركية، وهي ليست وليدة المعارك الانتخابية الأخيرة، بل تعود إلى مطلع هذا القرن الجديد، وإلى تداعيات 11 سبتمبر 2001، حينما ارتبط موضوع الأمن الأميركي بحروب كبيرة في العراق وأفغانستان، وبمسائل لها علاقة بالعرب وبالمسلمين وبالأقلّيات الدينية والعرقية في أميركا، إضافةً طبعاً للدور الخطير الذي قام به من عُرِفوا باسم «المحافظين الجدد» في صنع القرار الأميركي، وفي تغذية مشاعر الخوف لدى عموم الأميركيين، ممّا دعم أيضاً الاتّجاه الديني المحافظ في عدّة ولاياتٍ أميركية، ثمّ ظهور «حزب الشاي» كحالة تمرّد سياسي وشعبي وسط الحزب الجمهوري ومؤيّديه، والتي استطاعت التأثير الكبير على «الجمهوريين» في الكونغرس الأميركي.
هكذا هي الآن أميركا، وهكذا ستكون معاركها الانتخابية القادمة، إذ لن تكون فقط حول الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي تطغى أحياناً على سطح الإعلام، بل حول المسائل المرتبطة بالدين والعرق والثقافات. إنّها معارك سياسية حول كيفيّة رؤية أميركا للمستقبل وللاتّجاه الذي سيسير نحوه المجتمع الأميركي.
لقد كان من الصعب في القرن الماضي التمييز بعمق بين برنامجَي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن حتماً في محصّلة السنوات الأخيرة، أصبحت الخلافات تتّسع بين رؤى الديمقراطيين والجمهوريين لأنفسهم ولمستقبل أميركا ولعلاقاتها الدولية. ووجدنا هذه الفوارق واضحة في نهاية المؤتمرات الحزبية التي حصلت في العام الماضي قبل الانتخابات الرئاسية. وربّما هو الوقت المناسب الآن لكي يُراجع قادة الحزبين، والشعب الأميركي بشكل عام، ما حصل في أميركا من «ظاهرة ترامب» وانعكاساتها الخطيرة داخل الولايات المتّحدة وخارجها.
Leave a Reply