في الوقت الذي يواصل فيه الجيش السوري وحلفاؤه زحفهم نحو معاقل داعش الذي يعيش أيامه الأخيرة، مرّة أخرى تستخدم الولايات المتحدة مجرّد «شبهات» كيميائية في التخطيط لعدوان جديد على سوريا، لعلها تحفظ ما يمكن حفظه من نفوذها في المنطقة، حتى لو كان ذلك محفوفاً بمخاطر اندلاع حرب كبرى ضد روسيا نفسها.
هذه المرّة، لا «أدلّة»، ولا مشاهد مفبركة. دونالد ترامب استند في تهديداته إلى «تقديرات» استخباراتية –أميركية بطبيعة الحال– حول ما قال إنه «استعداد» للجيش السوري لاستخدام السلاح الكيميائي.
يبدو المشهد مكرراً، بإخراج جديد. ما زال العالم يذكر الصورة الشهيرة لكولن باول، وزير خارجية جورج بوش الابن، قبل نحو 15 عاماً، وهو يعرض أنبوباً في اجتماع لمجلس الأمن الدولي، قال وقتها إنه يحوي عيّنات من المواد الكيميائية التي يستخدمها الجيش العراقي… وباقي الحكاية بات معروفاً للجميع: غزو العراق، الذي ما زال الوطن العربي، والعالم أجمع، يدفع أثمانه.
ولكنّ شتّان ما بين العراق 2003 وبين سوريا اليوم. في تلك الفترة، كان العالم ما زال يعيش واحدة من أسوأ مراحل تاريخه المعاصر. كان النظام العالمي على طريق الأحادية الكاملة، فروسيا كانت لا تزال تلملم جروحها الداخلية، بعد زلزال العصر، المتمثل في انهيار الاتحاد السوفياتي، وأوروبا لم تكن سوى ذلك «الكلب المطيع» للولايات المتحدة، كما كان يصفها الكثير من المعلقين الأميركيين.
ولا بد من التذكير، في معرض استعادة بعض من التاريخ، أن جبروت إدارة جورج بوش، التي لم يكن ينازعها أحد في العالم، لم يتمكن من حشد الدعم الدولي الفعلي للعدوان على العراق، إذ لم تجد الولايات المتحدة حينها من شريك في الميدان سوى بريطانيا –طوني بلير– فيما كانت أنظمة الخليج، لاسيما السعودية، تدفع فاتورة الحرب من أموال البترودولار.
صحيح أن تلك الحرب حققت أهدافها، لجهة تدمير العراق، وغزو بلاد الرافدين، لنهب ثرواتها، ومعها ثروات المنطقة العربية ككل؛ وصحيح أنّ أحداً لم يعارضها عملياً لا في الشرق ولا في الغرب، إلا أنها كانت فاضحة للأميركيين، الذين بدوا عاجزين عن تشكيل تحالف دولي ضد صدام حسين، وذلك للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة.
بعد أكثر من 15 عاماً، لا يختلف اثنان على أن الأوضاع العالمية تغيرت. لم تعد روسيا–فلاديمير بوتين هي نفسها روسيا–بوريس يلتسين، لا بل أنها صارت الرقم الصعب في المعادلة الشرق أوسطية. وأما حلفاء أميركا، لاسيما الأوروبيون، فقد باتوا أكثر قدرة على قول «لا»، في حال تضاربت مصالحهم مع المخططات التي ينتهجها سيّد البيت الأبيض.
انطلاقاً من ذلك، فإن ضربة «التوماهوك» التي وجهتها السفن الأميركية ضد مطار الشعيرات العسكري وسط سوريا، وبرغم التهليل الذي استقبلت به من قبل الغربيين في ساعاتها الأولى، سرعان ما اتضح فشلها، حالما انقشع غبارها. ولكن ما الذي يدفع إدارة الرئيس دونالد ترامب للتلويح بإعادة الكرّة؟
الشعيرات الأولى
فشل ضربة مطار الشعيرات الأولى كان واضحاً على مستويين: الأول، عسكري، وقد تبدّى في ما كشفته وزارة الدفاع الروسية من معطيات، أظهرت أن معظم الصواريخ الحديثة الموجّهة قد أسقطت – أو ضلت طريقها بفعل ما قيل إنه تشويش إلكتروني – وأن ما وصل منها إلى مطار الشعيرات لم يصب أهدافه. وأما المستوى الثاني، فسياسي، وقد تبدّى في إدراك القاصي والداني، بأنّ ما فعله ترامب لم يكن سوى ذر للرماد في عين خصومه الداخليين، من المجتمع العسكري والاستخباراتي الأميركي.
علاوة على ذلك، فإنّ استخدام الولايات المتحدة ورقة «الكيميائي»، لتصفية حسابات مع سوريا –وبطبيعة الحال مع روسيا– لم يعد يحظى بمصداقية، في الأروقة الديبلوماسية، أو في مراكز القرار في عواصم العالم. ولعلّ ما كشفت عنه الأيام القليلة التي تلت ضربة الشعيرات، من معلومات ومعطيات، بشأن اتخاذ القرار، كانت كافية لكشف التزييف الأميركي للحقائق.
آخر تلك المعلومات، ما كشف عنها لصحافي الأميركي الاستقصائي البارز سيمور هيرش، في مقال نشرته صحيفة «فيلت» الألمانية، قبل أيام، وقد أظهرت أن دونالد ترامب، أمر بضرب قاعدة الشعيرات، برغم من إبلاغه مسبقاً، بعدم وجود أي دليل على استخدام الجيش السوري مواد كيميائية في هجوم على مركز للمتشددين في خان شيخون.
ربما هذا ما يفسر الفتور السائد حالياً إزاء احتمالات توجيه ضربة جديدة، حتى في أوساط المنظومة العسكرية الأميركية. وهو ما يدفع ببعض المراقبين إلى استبعاد مغامرة جديدة، من هذا القبيل، خصوصاً أن الانذار الروسي بدا هذه المرّة أكثر حدّة.
ولكن، من جهة ثانية، فإنّ النزعة المتهورة لدونالد ترامب، وفريقه للشؤون الدفاعية والاستخباراتية، ربما تدفع بالأمور نحو حافة الهاوية، خصوصاً أن ثمة رغبة عارمة داخل الإدارة الأميركية في «لجم» روسيا، أو على الاقل «اختبارها»، في ظل التوتر غير المسبوق في العلاقات الثنائية، الذي يتجاوز الميدان السوري، ليصل إلى البلطيق (وهو ما تبدّى قبل أيام حين كانت طائرتا «سوخوي» و«أف 16» على قاب قوسين أو أدنى من الاحتكاك المباشر، حينما اقتربت الأخيرة من طائرة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو).
فرص العدوان
تهديد البيت الأبيض الأخير بأن سوريا «ستدفع الثمن غالياً»، سرعان ما تراجع عنه وزير الدفاع الأميركي بدعوى أن الرئيس بشار الأسد أخذ التهديد على محمل الجدّ. لكن مناورة دونالد ترامب الافتراضية في سوريا، قد تكون سبيلاً مأمولاً لتعزيز موقعه التفاوضي في أكثر من ملف.
علاوة على ذلك، فإنّ ثمة حراكاً أميركياً، منذ الزيارة الأخيرة لترامب إلى الشرق الأوسط، لإعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية بما يخدم السياسة الأميركية، وهو ما يمكن رصده في الكثير من الملفات، بدءاً بالأزمة الخليجية، مروراً بعمليات القصف المتعمد للجيش السوري –سواء من جانب إسرائيل أو من قبل الطائرات الأميركية– وصولاً إلى الحديث عن «مبادرة سلام» إسرائيلية، من أخطر بنودها الدعوة إلى حل «حزب الله»، بوصفه «التهديد» الأخير لإسرائيل، بعدما تمّ تحييد حركة «حماس»، التي تراجعت في وثيقتها السياسية الأخيرة خطوات عدّة إلى الخلف.
انطلاقاً من ذلك، من غير المستبعد أن يكون ما تعد له إدارة ترامب هذه المرّة يتجاوز في أهدافه بأشواط عدّة ضربة الشعيرات الأخيرة، خصوصاً إذا ما رُبط الأمر، بالتهديدات الصادرة عن مؤتمر «هرتسيليا»، وبالنشاط الاستخباري المحموم فوق أجواء سوريا، وبتحركات عسكرية مريبة، من بينها إرسال حاملة الطائرات «جورج واشنطن» إلى قبالة سواحل فلسطين المحتلة.
ولكن حتى الآن، وفي ظل المؤشرات المتباينة، وغياب الإجماع الدولي على أي عدوان جديد على سوريا، فضلاً عن اللهجة الحازمة من جانب روسيا… فإنّ الضربة الأميركية المحتملة، إن حصلت، تتفاوت أهدافها بين مستويين:
المستوى الأول، أو مستوى الحد الأدنى، يتمثل في إعادة التوازن للنفوذ الأميركي في سوريا، بعد الخطوات السريعة والمتلاحقة التي خطتها روسيا خلال الآونة الأخيرة، وتمكنها من فرض معادلتها الجوية، عن طريق الوقف التام للعمل في بروتوكول السلامة الجوية، ودعم جهود الجيش السوري وحلفائه في إعادة السيطرة على المعابر بين سوريا والعراق، بكل ما يعنيه ذلك من تبدّل جوهري في وجهة الصراع.
إعادة التوازن هذا، ألمح إليه وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، عبر شعار «منع التصادم» في منطقة وادي الفرات، بين المقاتلين المدعومين من الولايات المتحدة (الأكراد)، والقوات الحليفة لروسيا (الجيش السوري وباقي الفصائل التي تقاتل إلى جانبه).
وأما المستوى الثاني، أو مستوى الحد الأقصى، فيتمثل في مغامرة عسكرية تتجاوز الخطوط الحُمر، باتجاه تغيير جوهري في المعادلة الميدانية والسياسية. ولعلّ السيناريو الأوّل، وفي ظل الموقف الروسي الحاسم، والذي تجدد بشكل أقوى، منذ بدء التهديدات الأميركية، لا يمكن أن يتم دونما تفاهمات سياسية، بعيداً عن الوعيد والتعالي المتّبع حالياً في واشنطن.
ومن المؤكد أن الولايات المتحدة باتت تدرك أن الرد الروسي المقبل على عدوان جديد محتمل على سوريا، سيكون أشدّ من سابقاته. ولعل الرسالة الروسية كانت واضحة في هذا السياق، حينما اعتلى الرئيس السوري بشار الأسد طائرة الـ«سوخوي–35» في مطار حميميم، تزامناً مع التهديدات الجديدة.
وأما السيناريو الثاني، فلا شك أنه سيقود إلى مواجهة مدمّرة لن تقتصر تداعياتها على الميدان السوري. إذ لا مبالغة في القول إن خرق الخطوط الحُمر من قبل الولايات المتحدة سيكون مقدمة لما يُعتقد أنه «حرب عالمية ثالثة». ولعلّ تعليق أحد المعلّقين الروس، بعد ضربة الشعيرات، هو خير تعبير عن هشاشة الوضع الحالي، حين قال لمحادثه: «لو أنّ دفاعاتنا أسقطت طائرة أميركية، لما كنّا نتحدث اليوم، فلربما سنهلك في هجوم نووي… ومن المؤكد أن وكالات الأنباء كانت ستنشر أخباراً عن صاروخ نووي سقط هنا أو هناك!».
تحقيق سيمور هيرش
يورد الصحافي الأميركي سيمور هيرش في مقاله، الذي نشرته الصحيفة الألمانية «فيلت أم زونتاغ» يوم الأحد 25/06/2017، الدلائل التي توصل إليها، والتي تؤكد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أصدر أمرا بضرب قاعدة «الشعيرات» الجوية السورية بصواريخ «توماهوك» على الرغم من إبلاغه مسبقاً ببراءة بشار الأسد من هجوم خان شيخون الكيمياوي في محافظة إدلب. ويعتمد الصحافي الأميركي في مقاله على مصادر في الحكومة والاستخبارات الأميركية. ووفقا لسيمور هيرش، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان أيضاً على علم مسبق، بأن الطائرات الحربية السورية تنوي توجيه ضربة إلى الإرهابيين في خان شيخون، وأن الجانب الروسي أبلغ الأميركيين بذلك بموجب الاتفاق بين الجانبين الروسي والأميركي (مذكرة التفاهم لتلافي الحوادث) في الأجواء السورية.
وقد وجه الطيران الحربي السوري ضربته يوم الرابع من نيسان (أبريل)؛ مستهدفا المقر الذي كان يجتمع فيه قادة المسلحين بـ «قنبلة جوية موجهة تحمل رأساً حربياً تقليدياً»، قدمتها روسيا للعسكريين السوريين. ويقول هيرش إن الطيران السوري أصاب مبنى من طابقين كانت تدور فيه مفاوضات بين زعماء المسلحين. أما في الطابق السفلي من هذا المبنى، فكان يوجد مخبأ للأسلحة والصواريخ ومواد كيمياوية على أساس مادة الكلور، الذي يطهر به جسد الميت قبل دفنه.
ولدى سقوط القنبلة على المبنى حدثت سلسلة من التفجيرات للذخائر التي كانت موجودة، وشكلت سحابة من الغاز السام الناجم عن تفجير المواد الكيميائية، التي كانت موجودة في المخزن.
وكما يشير هيرش، فإن القادة العسكريين الأميركيين أنفسهم توصلوا إلى هذا الاستنتاج.
ويؤكد الصحافي أيضاً أن أحد مستشاري الإدارة الأميركية في القضايا الأمنية، قال بشكل مباشر إن هذا «لم يكن هجوماً كيميائياً، إن ذلك خرافة».
Leave a Reply