انفصال كردستان يحطّم الحواجز الإقليمية
كسر استفتاء كردستان الكثير من الحواجز والخطوط الحُمر.
الحفاوة التي استُقبل بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في طهران، والتوافق في الموقف إزاء المغامرة البرزانية الخطيرة مع الرئيس «الإصلاحي» حسن روحاني والمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، يشي بتحوّل كبير في العلاقات الإيرانية–التركية، على نحو قد يبدّل الكثير من قواعد اللعبة في الشرق الأوسط… والعالم.
زيارة اردوغان إلى طهران، سبقتها زيارة لا تقل أهمية، في سياق التحوّلات الشرق أوسطية، قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة، بدت معها تركيا، التي غامرت إلى أقصى الحدود، قبل ست سنوات، بدعمها ما بات يعرف بـ«الربيع العربي»، ربما تكون مستعدة اليوم، لمغامرة أكثر خطورة في بعدها الاستراتيجي، وتتمثل في خلع العباءة «الأطلسية»، وارتداء عباءة محور ممتد من روسيا وإيران مروراً بالعراق وسوريا ووصولاً إلى لبنان.
وعلى الرغم من أن أردوغان، سواء في تصريحاته التي أطلقها من طهران، أو تلك التي ألقاها على مسامع ضيفه الروسي في أنقرة، قد بدا حريصاً على تمييز موقفه من الصراع الدائر في سوريا عن الموقفين الإيراني والروسي، إلا أن تحرّكاته تشي بأنه بات أكثر قرباً من طهران وموسكو، بعدما انقلبت واشنطن وتل أبيب عليه –أو انقلب عليهما– في السياسة الإقليمية والدولية.
مؤشرات الانعطافة الأردوغانية
ثمة مؤشرات عدّة يمكن رصدها للتدليل على تلك الانعطافة الأردوغانية التي لم تكتمل بعد.
أولى تلك المؤشرات، المواقف المتبادلة، على خط أنقرة–موسكو من جهة، وأنقرة–واشنطن من جهة ثانية، بعد الحركة الانقلابية الفاشلة التي شكلت أخطر التحدّيات على حكم «السلطان» في تموز العام 2016. يومها، بدا واضحاً أنّ الرئيس التركي صار أكثر وثوقاً بـ«الشريك» الروسي منه إلى «الحليف» الأميركي، فيوماً بعد يوم، يزداد يقين أردوغان بأنّ ثمة ضلعاً أميركياً في الحركة العسكرية التي يقف وراءها الداعية الإسلامي فتح الله غولن الذي لا يخفى على أحد أنه يحظى بغطاء من الولايات المتحدة على قدر اليقين ذاته الذي يجعله ممتناً لروسيا في إحباط المؤامرة العكسرية على حكمه بعدما حذرته من وقوعها مسبقاً عبر القنوات الاستخباراتية.
هذا ما يمكن تلمّسه في الخطوات التركية، التي انعطفت باتجاه روسيا، والتي تبدّت في الاعتذار الشهير عن حادثة إسقاط طائرة «السوخوي» في شمال سوريا، وما استتبعه ذلك من عودة الدفء إلى العلاقات الثنائية بعد إنهاء القطيعة الروسية… وعلى نحو أكثر عمقاً في صفقة شراء منظومة الدفاع الجوي «أس 400»، بوصفها سلاحاً استراتيجياً لا يمكن لدولة مثل روسيا أن تبيعه لدولة مؤسسة في «الحلف الأطلسي»، لولا أن ثمة ما يطمئنها إلى أنّ تركيا ربما تكون على قاب قوسين أو أدنى من إجراء تحوّل تاريخي في طبيعة علاقاتها الدولية.
وعلى المقلب الآخر، لا يمكن وضع الاندفاعة الأخيرة لأكراد العراق، سوى في إطار سياسات الضغط الأميركية على تركيا، فانفصال الإقليم الكردي في شمال العراق سيشكل من دون أدنى شك تهديداً غير مسبوق للأمن القومي التركي، خصوصاً إذا ما استتبع بمغامرة كردية باتت ظروفها متوافرة في الشمال السوري، وأخرى أكثر خطورة في الداخل التركي نفسه.
على هذا الأساس، يمكن فهم الهجمات المتكرّرة التي شنّها رجب طيب أردوغان على إسرائيل، بوصفها الداعم الرئيسي أو حتى الوحيد للاستفتاء الكردي، على النحو الذي يجعل الخطاب الأردوغاني متماهياً على سبيل المثال مع الموقف الإيراني الذي عبّر عنه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، أو أبعد من ذلك في الموقف الذي تضمنّه خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في ليلة العاشر من محرّم.
بطبيعة الحال، قد يجادل البعض بأن الانعطافة الأردوغانية تجاه إيران، هي مجرّد لتقاطع مصالح بين طهران وأنقرة، إزاء الاستفتاء الكردي، خصوصاً أن الهواجس الإيرانية من مغامرة كردية في شمال–غرب البلاد، مع وجود حزب انفصالي مثل «بيجاك»، يتلاقى مع الهواجس التركية المشار إليها آنفاً.
ولكنّ قراءة أشمل للمشهد الإقليمي، تدفع باتجاه النظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، فالتأثير الجيوسياسي للاستفتاء الكردي يتجاوز، كما يعلم القاصي والداني، مجرّد ممارسة الضغط على تركيا وإيران، إذ لا يمكن وضعه سوى في خانة إعادة تشكيل للخرائط الجغرافية في الشرق الأوسط، بعدما فشلت محاولات مشابهة قبل أعوام قليلة، مع الاندفاعة الخطيرة، والعابرة للحدود، التي سلكها تنظيم «داعش»، الذي استنفدت وظيفته كأداة للمشروع الأميركي، أو بعبارة دقيقة إعادة إحياء مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أسقطته المقاومة في لبنان وفلسطين، كما أكّد على ذلك صراحة السيد حسن نصرالله.
تغيرات إقليمية
إن المشروع التقسيمي الجديد لا يمكن أن يتجاهله أحد، خصوصاً في ظل وجود إدارة جمهورية في البيت الأبيض، وبعد عودة صقور المجتمع العسكري والاستخباراتي الأميركي إلى الواجهة السياسية بعد ثمانية أعوام من الانكفاء في عهد باراك أوباما.
وإذا سار المرء على مقولة «خذوا أسرارهم من صغارهم»، فإنّ طبيعة المشروع الأميركي الجديد لا يمكن قراءتها سوى في التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، حين أقرّ بأنّ الرئيس بشار الأسد قد انتصر في سوريا، وأن طوابير من القادة الإقليميين والدوليين تصطف اليوم، طلباً لمصافتحه، بما في ذلك قادة ما تسمّيه إسرائيل بـ«محور الاعتدال».
ولعلّ هذه التصريحات تعكس، على نحو لا جدال فيه، إقرار الولايات المتحدة وإسرائيل بهزيمة المشروع التقسيمي لسوريا، والذي بدأ على الأرجح في انتاج مفاعيله الإقليمية الأكثر اتساعاً، والتي ربما يرشح بعض منها، مع لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالملك السعودي سلمان بن عبد العزيز في موسكو، أو حتى في مراقبة الأوضاع عن كثب في الميدانين السوري والعراقي، في ظل التحوّل الكبير الذي أفرزه التدخل العسكري الروسي في سوريا قبل عامين من جهة، والإدارة الميدانية المميزة للحرس الثوري الإيراني، بقيادة الجنرال قاسم سليماني في العراق.
بذلك، تكون الولايات المتحدة، ومن خلفها أو أمامها إسرائيل، قد عادت إلى المربّع الأول المتمثل في خطة تفتيت الشرق الأوسط، لا سيما بعدما قوبلت المطالب الملحّة من الجانب الإسرائيلي بإبعاد إيران و«حزب الله» عن سوريا بخطوط حُمر واضحة فرضتها روسيا –لكونها تمس بحليف إقليمي وثيق حسبما أوردت صحيفة «برافدا» بعد اللقاء الفاتر بين بوتين ونتنياهو في سوتشي– وبعدما باتت الدفة الجيوسياسية لصالح «الحليفين» الروسي والإيراني.
وممّا لا شك في أن كردستان العراق باتت تشكّل اليوم «كعب أخيل» فيما يحاك للمنطقة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، فالذهاب بعيداً في المغامرة البرزانية، قد يفجّر الشرق الأوسط برمّته، كما توقع بذلك أكثر من مسؤول دبلوماسي روسي في الآونة الأخيرة، ولكن الاستفتاء الكردي ربما يكون، في المقابل، سلاحاً ذا حدّين، لجهة استنفاره الأنظمة القومية، على اختلافها، للدخول في تحالفات تقيها صندوق الشرور الانفصالية.
تحولات جديدة
يمكن فهم التقارب الإيراني–التركي الأخير، بعد استفتاء كردستان، والذي قد يشي بتحوّل استراتيجي هائل في الشرق الأوسط، تحسم معه تركيا خياراتها، باتجاه انهاء حالة التردد والتذبذب في علاقاتها بين الشرق والغرب، بما يجعلها، في مرحلة ما، جزءاً من تحالف إقليمي جديد يحظى برعاية روسية مباشرة، ويقابله تحالف إقليمي آخر (خليجي) يحظى بدعم الولايات المتحدة.
ولا شك في أن سلوك تركيا هذا المسار، سيغيّر الكثير من الحقائق والمعطيات الجيوسياسية، وقد يضع السعودية وحلفاءها الخليجيين في موقف صعب، يرجّح أن تشكل في سياقه زيارة الملك سلمان لموسكو، محطة لرصد متغيّرات السياسة الإقليمية والدولية، خصوصاً أن البيت الخليجي لم يعد موحّداً بعدما باتت قطر بدورها أقرب إلى إيران منه إلى السعودية، في حين تواصل مملكة آل سعود الغوص في المستنقع اليمني.
ولا شك أيضاً في أن زيارة الملك سلمان لروسيا قد تدفع باتجاه إعادة نظر في الخيارات الاقليمية، بعدما اختلطت كل الاوراق، وليس من قول أكثر دلالة على أن الشرق الأوسط قد يكون مهيئاً لتحوّلات جديدة، غير ذاك الذي صرّح به الرئيس فلاديمير بوتين، حين سئل، على هامش المنتدى الدولي حول فعالية الطاقة، حول الشراكة الأميركية السعودية، فأجاب: «لا يوجد في العالم أي شيء دائم»!
Leave a Reply