نبيل هيثم – «صدى الوطن»
لا يمكن فهم أسباب تفجير «السلطان أحمد» فـي اسطنبول سوى فـي ما يرافقه من مواقف سياسية تطلقها الماكينة السياسية والإعلامية لنظام رجب طيب أردوغان.
اللعبة باتت مكررة ومكشوفة: تفجير إرهابي مريب لا يجد من يتبناه، فـينبري نظام «حزب العدالة والتنمية» بعد ساعات، وأحياناً دقائق، ليكشف ما تعجز أعتى أجهزة الامن والاستخبارات فـي العالم عن كشفه، أي الجهة المنفذة، وهي غالباً ما تكون «داعش» و«حزب العمال الكردستاني» معاً!
هذا ما حصل بالفعل فـي تفجير سوروتش، وبعده تفجير أنقرة، اللذين استهدفا تجمعات للأكراد، وقد القيت التهمة مباشرة، وبسرعة مريبة، على «داعش» و«الكردستاني»، لتكتمل بعد أيام، أو بعد أسابيع قليلة، فصول المسرحية، بإنجاز سياسي ما، غالباً ما يكون داخلياً.
ولعل المفارقة الكبرى فـي تلك الأحداث، أن «داعش» لم يتبنّ حتى الآن أي من تفجيري سوروتش وأنقرة، مع العلم أن التنظيم المتشدد لا يخجل عادة من أعماله الارهابية، لا بل يسارع فـي تبنيها، لرفع الروح المعنوية لعناصره التكفـيرية، او لتسجيل هدف فـي مرمى أعدائه الاقليميين والدوليين، وهي ظاهرة تكشفها كل العمليات الارهابية لـ«الدواعش» بدءاً بسوريا والعراق، مروراً بالسعودية واليمن والبحرين والكويت ومصر… وصولاً الى فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة وإندونيسيا الخميس الماضي.
سيناريوها سوروتش وانقرة تكرّرا الأسبوع الماضي فـي اسطنبول، لكن ما يميّز العملية الارهابية الاخيرة عن سابقتيها يبدو مختلفاً فـي الشكل والأهداف.
وعلى غرار العمليتين السابقتين، فإن «داعش» لم يتبنّ -حتى وقت كتابة هذه السطور- تفجير السلطان أحمد الذي أودى بحياة عشرة أشخاص بينهم تسعة ألمان. ومع ذلك، فإنّ أي تبنّ رسمي من التنظيم المتشدد لن يغيّر فـي الأمر شيئاً، فالتصريحات التي اطلقها الثنائي رجب طيب أردوغان واحمد داود أوغلو إثر العملية الارهابية تبدو معبّرة عمّا يجول فـي أذهان العثمانيين الجدد.
وكان ملفتاً فـي هذا الإطار، إسراع السلطات الى تحديد الجهة التي ينتمي اليها مفجر العملية الإرهابية، أي «داعش»، وحتى اسمه، وجنسيته ومكان ولادته!
هجوم أردوغاني على إيران
وكان ملفتاً أيضاً ان الاتهامات والإيحاءات السياسية كانت جاهزة من قبل الثنائي العثماني، قبل أن يغسل عمّال بلدية اسطنبول شوارع ساحة السلطان احمد من دماء الضحايا.
وفـي توقيت مريب، إن لجهة التفجير، أو لجهة التوتر الايراني-السعودي فـي الشرق الأوسط، خرج أردوغان بعد التفجير ليشن أعنف هجوم على إيران، متهماً اياها بـ«السعي إلى إشعال الشرق الأوسط، من خلال تحويلها الخلافات المذهبية إلى صراع»، ومشيراً إلى أنها «تتعمد توتير علاقاتها مع السعودية ودول الخليج».
لا بل أن اردوغان ذهب أبعد من ذلك، حين قال إن «إيران تستغل التطورات فـي اليمن والعراق وسوريا لتوسيع نفوذها» فـي الشرق الأوسط.
ولعلّ المريب فـي الأمر أن يستحضر أردوغان العامل المذهبي فـي ظرف دموي كهذا، وكأنما يحمّل الجمهورية الاسلامية، بشكل غير مباشر، مسؤولية المصاب التركي الدامي.
والمريب أكثر أن تسخين الحرب الكلامية ضد ايران قد اتى بعد فترة هدوء نسبي فـي الحرب الكلامية والديبلوماسية بين الجمهورية الاسلامية والمملكة العربية السعودية، لا بل بعد ساعات قليلة على إعلان وزير خارجيته مولود تشاوش أوغلو ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو إن انقرة مستعدة للقيام بدور الوسيط فـي الأزمة القائمة!
والملفت للانتباه كذلك، ان اردوغان لم يوفّر روسيا من هجومه الكلامية بعد تفجير اسطنبول، لا بل اتهمها بأنها «لا تواجه «داعش»، وإنما تعمل على إقامة دويلة سورية فـي اللاذقية ومحيطها».
رب قائل إن ما قاله أردوغان يأتي فـي سياق استغلال تفجير اسطنبول لتبرئة ساحته من تهمة دعم «داعش» عسكرياً ومالياً، وافتضاح أمره فـي هذا السياق حتى لدى اقرب حلفائه «الاطلسيين».
ماذا يخطط العثمانيون الجدد؟
ولعلّ ما كتبه الصحافـي الأميركي البارز سيمور هيرش قبل نهاية العام المنصرم بقليل كان معبّراً عن انكشاف اردوغان امام الجيش الأميركي نفسه، حين نقل الكاتب عن مستشار فـي هيئة الاركان المشتركة الاميركية استياء الجنرالات الاميركيين ومجتمع الاستخبارات فـي الولايات المتحدة من الدعم الذي يقدمه السلطان العثماني الجديد للجماعات المتطرفة، بما فـي ذلك «جبهة النصرة» و«داعش».
ولكن التصريحات اللاحقة، التي خرجت على لسان أحمد داود أوغلو، حول تفجير اسطنبول تعكس ما هو أدهى، فقد ذهب رئيس الوزراء التركي الى حد القول ان «داعش» ليس إلا «وسيطاً» لعمليات أكبر تنفذها جهات أخرى.
واذا ما رُبطت تصريحات داود أوغلو هذه بالهجوم الذي شنه اردوغان على روسيا وايران، وخلفهما نظام الرئيس بشار الأسد، وحملة الاعتقالات الواسعة التي شنتها أجهزة الأمن التركية، وتسريب ما يفـيد بأن من بين المشتبه بهم ثلاثة أشخاص يحملون الجنسية الروسية -من دون ذكر انتماءاتهم- فإنّ الأمر يتجاوز فكرة تبرئة الساحة، ويتعداها باتجاه مخططات إقليمية وربما دولية أكثر اتساعاً.
وعلى هذا الأساس، فإن داود أوغلو كان واضحاً فـي حديثه حين قال «حصلنا على معلومات حول الطريق الذي دخل منه منفذ الهجوم إلى تركيا، وجميع ارتباطاته وعلاقاته الخفـية، الأمر الذي عزز الاعتقاد لدينا أن عناصر ولاعبين مهمين ينشطون خلف الستار فـي هذه المسألة»، لا بل كان أكثر وضوحاً حين أشار الى انه «جرى التأكد من صلة منفذ هجوم السلطان أحمد، لكن «داعش» بات تنظيماً يمكن استخدامه بسهولة، أو كوسيط للتمويه على بعض العمليات.. وقد رصدنا عمليات تعاون قذرة للغاية بين النظام السوري وداعش قرب حدودنا»!
وبدا كذلك ان نظام رجب طيب اردوغان أراد اصابة عشرة عصافـير بحجر واحد من خلال عملية اسطنبول الارهابية، فبالإضافة الى محاولة تبرئة ساحة «حزب العدالة والتنمية» من تهمة دعم الارهاب، فثمة مؤشرات يعكسها الاستغلال السياسي للتفجير، للتصويب على أكثر من اتجاه، فالعملية العسكرية الروسية فـي سوريا تعيق، بحسب داود أوغلو، «الحرب» التي تشنها بلاده على «داعش»، كما أن كلامه يتضمن ايحاءات مباشرة الى ان العملية الارهابية قد تكون ثمرة «تعاون قذر» بين الدولة السورية و«الدولة الاسلامية».
سيناريوهان
كل ذلك، يدفع الى الاعتقاد بأن النظام الأردوغاني يبدو راغباً فـي استغلال عملية اسطنبول الى أبعد حدود، من خلال اعتماده سيناريو من اثنين:
وربما تعكس تصريحات أوغلو فكرة أن الأمن القومي التركي يقتضي دخول تركيا، إلى المناطق التي يسيطر عليها «داعش» من جرابلس إلى المارع وإعزاز فـي الشمال السوري، أي تلك الرقعة الجغرافـية التي تريد تركيا تحويلها إلى «منطقة أمنية وعازلة».
وليست مصادفة أن تأتي عملية اسطنبول فـي اليوم ذاته الذي حقق فـيه الجيش السوري انتصاراً استراتيجياً، بدعم من الطائرات الروسية، عبر تحريره بلدة سلمى فـي ريف اللاذقية الشمالي من سيطرة المجموعات الإرهابية، إلى جانب انجازات ميدانية أخرى فـي أرياف حلب وحماه واللاذقية.
عملية تحرير بلدة سلمى فـي ريف اللاذقية هي أبرز وأهم انتصار حققه الجيش السوري منذ الانخراط الروسي فـي العمليات العسكرية على طول الخارطة السورية، خصوصاً وأنه انتصار ضد تركيا، وهو خطوة مهمّة يقترب منها هذا التحالف من تحقيق الهدف المُعلن بتحرير كل هذه المنطقة وعودة الحيش السوري إلى الحدود مع لواء الاسكندرون السوري السليب الذي تحتله تركيا منذ الثلاثينات.
وجاء تحرير سلمى خاطفاً فـي ظل الضباب الكثيف بعد مباغتة خطوط دفاع المسلّحين من «أنصار الشام» وجماعات «جبهة النصرة» و«الحزب الإسلامي التركستاني» والشيشان والأويغور، الذين تراجعوا بسرعة قياسية باتجاه الحدود التركية من حيث جاؤوا.
أما إذا كانت أولوية تركيا كبح التقدم الميداني الذي يحققه الجيش السوري بمساعدة الطائرات الروسية، فإن هذا يتطلب سيناريو إبقاء «داعش» داخل دائرة الاتهام، ليكون نافذةً تبرر لتركيا الدخول منها إلى الداخل السوري.
ولعل داود أوغلو كان واضحاً فـي هذا الصدد حين قال إن على الروس «ألا يعرقلوا قتال تركيا ضد «داعش».. ففـي الوقت الحالي للأسف، هذا العائق موجود. ودول بعينها تتصرف بطريقة تؤدي لعرقلة القصف الجوي التركي. عليهم إما أن يدمروا داعش بأنفسهم أو يتركونا نفعلها»!
رسالة أخيرة
وأبعد من ذلك، فإن إصرار داود أوغلو على القول ان منفذ العملية «لاجئ» سوري دخل الى تركيا بحثاً عن مأوى، والاستهداف الواضح للسياح الألمان فـي التفجير، يظهران أن نظام «حزب العدالة والتنمية» يريد أيضاً توجيه رسائل للأوروبيين بشأن اللجوء والهجرة غير الشرعية، وهي مسألة كانت ولا تزال موضع خلاف كبير بين الحكومة التركية والاتحاد الاوروبي.
وعلى العموم، فإن داود أوغلو قد يكون صادقاً فـي قوله ان «داعش» مجرّد «وسيط» ليبقى السؤال: «وسيط» لمصلحة من؟
ربما يقدم الدعم التركي لـ«داعش» منذ نشأته وحتى اليوم اجابة على هذا السؤال.. ولكن من المؤكد ان الخيارات الأردوغانية المقبلة ستقدم الجواب اليقين.
ملايين الأتراك لا يعتبرون «داعش» إرهابياً!
أظهر استطلاع نشرت نتائجه يوم الثلاثاء الماضي، أي فـي اليوم ذاته الذي وقعت فـيه تفجيرات اسطنبول، أن نحو عُشر الأتراك لا يعتبرون تنظيم «داعش» منظمة إرهابية، وأن أكثر من خمسة بالمئة يؤيدون أعماله.
وأجري الاستطلاع، الذي يحمل عنوان «مسح الاتجاهات الاجتماعية فـي تركيا»، مركز أبحاث يقع مقره فـي أنقرة وشارك فـيه 1500 شخص من مختلف أنحاء البلاد.
وفـي اجاباتهم على الأسئلة قال 9.3 بالمئة من المشاركين إن «الدولة الإسلامية» ليس تنظيما إرهابياً، بينما قال 5.4 بالمئة إنهم «يؤيدون أنشطته».
وقال 21 بالمئة إن التنظيم المتشدد يمثل الإسلام، بينما قال 8.9 بالمئة إنهم يرون التنظيم كدولة أو ولاية.
ويرسم المسح صورة لقطاع صغير ولكن مهم من المتعاطفـين مع «داعش» بين الأتراك البالغ عددهم 78 مليون نسمة.
Leave a Reply