نبيل هيثم – «صدى الوطن»
فتيل حلب يشتعل.. وصار برميل البارود على وشك الانفجار.
صارت سوريا على المفترق. المحور التركي السعودي متوتر، غاضب من عجزه على قلب الميزان.. وكل دروبه تقود الى الفشل.
الروس وحلفاؤهم يتقدمون على عين العالم ومسمعه. حددوا الحسم العسكري على الحدود مع تركيا وحلب هدفا لا بد من تحقيقه. هم على الارض يتحكمون فـي البر والبحر والجو. ويقتربون من قلب المعادلة وخلال مهلة بضعة أشهر.
إنه قرار الحسم، ويبدو ان هذا الحلف صار مطلق اليدين خاصة وان العالم مشغول بأزماته وتعقيداته، وبعدم قدرته على اللحاق بهذا الحلف الذي يتحكم بالملعب السوري كاملاً.
حاول الأتراك تغيير المعادلة، روجوا لعملية برية فـي سوريا.. تحمس معهم السعوديون ولكن خاب أملهم اولا لعجزهم أمام الروس وثانيا لعدم توفر التغطية الأميركية لعملية عسكرية من هذا النوع. كان واضحاً أن الولايات المتحدة لا تريد الانجرار الى معارك يحددها من يريدون لها أن تكون فـي خدمتهم غب الطلب وفـي خدمة تهورهم ومغامراتهم.. لذلك هي نصحت بتجنب المغامرات وأية عمليات غير محسوبة قد ترتد بنتائج كارثية على القائمين بها.
أهمية حلب
التركي غاضب من واشنطن. والسعودية خائفة. أمامها فترة قصيرة جداً لتخرج ولو بإنجاز إعلامي يغطي فشلها فـي اليمن وفـي كل بقعة كان لها دور فـيها. وأما الأميركيون فـيدركون حقيقة الميدان ويدركون أيضاً قرار الروس بالمواجهة والتصدي لكل من يحاول التدخل لقلب المعادلات.. فالعين الروسية على حلب، والمعركة هناك هي مبتدأ وخبر الحرب السورية، لا بل أنها محور المسارين العسكري والسياسي فـي الحرب داخل سوريا وعليها.
فبسرعة فائقة غادر كل اطراف الأزمة السورية، فـي الداخل والخارج، قاعات التفاوض الصعب، لا بل المستحيل فـي جنيف، وصارت معركة حلب هي المبتدأ والخبر.
ليس من باب المبالغة ما حفلت به بعض وسائل الاعلام الأجنبية، لا سيما الروسية، من عناوين للحدث السوري على غرار «حلب.. ستالينغراد سوريا» و«الحرب العالمية الثالثة تبدأمن حلب»، فبالرغم من أن جبهات الحرب السورية لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، إلا أن جبهة حلب تكتسب اهمية استثنائية، لا تضاهيها فـي ذلك سوى جبهة دمشق، التي تبددت أحلام المعارضين ورعاتهم الاقليميين والغربيين بشأن امكانية سقوطها منذ فترة ليست ببعيدة. ومعروف أن مدينة حلب وريفها الممتد الى الحدود التركية، تكتسب أهمية خاصة على المستوى الاستراتيجي، حيث تحولت منذ الاشهر الاولى للصراع المسلح الى عمق استراتيجي للمجموعات المسلحة، على اختلاف مشاربها، فـيما يذل الجيش السوري وحلفاؤه الغالي والرخص لعدم سقوط المدينة بيد المسلحين ومن ورائهم.
وحين يتم الحديث عن أهمية جبهة حلب، لا يمكن المرور فوق بعض المحطات المفصلية التي تعكس ما تمثله هذه المنطقة الشمالية بالنسبة الى كافة اللاعبين الاقليميين والدوليين فـي سوريا، وفـي مقدمتهم تركيا، التي أفصح رئيسها الحالي رجب طيب أردوغان فـي الاشهر الاولى للصراع المسلح (وكان حينها رئيسا للوزراء) عن انه لن يهدأ له بال حتى يصلي صلاة عيد الأضحى فـي الجامع الأموي الحلبي، بعدما تبددت أحلامه فـي أن يؤدي صلاة عيد الفطر فـي المسجد الأموي الدمشقي.
ويبدو أن أحلام اليقظة عند أردوغان تتبدد يوماً بعد يوم وتتحول الى كوابيس، خصوصاً مع دخول «معركة حلب الكبرى» حيز التنفـيذ من الناحية العملياتية، مع إطلاق الجيش السوري من جهة، وقوات الحماية الكردية على جهة موازية، حملات عسكرية واسعة لتحرير حلب وريفها من أيدي الجماعات المتشددة.
وعلى هذا الأساس، نجح الجيش السوري فـي استثمار القوة الجوية الروسية بأفضل ما يمكن، وحقق إنجازات ميدانية استثنائية، كانت باكورتها كسر الحصار عن مطار الكويرس فـي الريف الشرقي، ثم تحرير عشرات القرى والبلدات فـي الريف الجنوبي، وهي عملية طويلة ومعقدة توجت بعملية كسر الحصار عن نبل والزهراء قبل أن يبدأ التحرك نحو تل رفعت وأعزاز، التي سيشكل سقوطها المسمار الأخير فـي نعش المنطقة العازلة التي حلم بها أردوغان يوماً.
ونتيجة العمليات نجح الجيش السوري وحلفاؤه بقطع الطريق الواصل بين مدينة حلب والحدود التركية، والمعروف باسم «ممر اعزاز»، انطلاقاً من ضاحية باشكوي، فـي تطوّر ميداني، انهارت معه العديد من جبهات المجموعات المسلحة، لا سيما من مسلحي «جبهة النصرة» وأخواتها لتعزل بذلك أحياء حلب الشرقية الواقعة تحت سيطرة المسلحين عن الحدود التركية.
العامل الكردي
وفـي موازاة التقدم الكبير الذي حققه الجيش السوري على كل جبهات حلب، حيث تواصل قواته الزحف الى مدينة الباب وباقي الريف الشرقي (عمق «داعش» وشريانه الى تركيا) فإن جبهة الشمال السوري شهدت تحوّلاً ميدانياً لا يقل اهمية، وقد تمثل فـي دخول «وحدات حماية الشعب» الكردية بشكل مباشر وقوي على خط معركة أعزاز.
ويبدو أن ما جرى فـي جنيف، من استبعاد للأكراد، قد انعكس بشكل دراماتيكي على جبهات القتال، ما يعني ان الجماعات المعارضة، ومن يقف خلفها، نصبت للأكراد فخاً سياسياً، فوقعت فـيه عسكرياً، ذلك ان التعاون غير المباشر بين «وحدات حماية الشعب» والجيش السوري فـي الجبهة الشمالية، والذي فرضه ظروف قتالية محددة، لجهة وجود عدوّ مشترك (الفصائل المتشددة مثل «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» و«حركة نور الدين الزنكي» أو تلك التركمانية القريبة من تركيا مثل «لواء السلطان مراد»)، وكان من أبرز تجلياته السابقة قيام «الوحدات» بتأمين الجانب الغربي من محور نبل-الزهراء فـي مقابل تأمين الجيش السوري حي الشيخ مقصود الكردي فـي قلب حلب، قد تحوّل اليوم الى تعاون مباشر، تبدّى بشكل خاص بعد التقدم الكبير الذي حققه الجيش السوري فـي ريف حلب، بمؤازرة سلاح الجو الروسي، والذي منح وحدات الحماية الكردية هامشاً أوسع لشن الهجمات المتتالية عند الحدود السورية-التركية.
ممر أعزاز
وأمّا الهدف الرئيسي من العمليات الجارية حالياً فهو تأمين السيطرة الكاملة على ممر أعزاز الذي تسيطر عليه الفصائل المنضوية فـي «أحرار الشام» (جبهة فصائل بقيادة «جبهة النصرة»).
ويقع ممر أعزاز فـي نقطة حساسة جداً فـي الشمال السوري، فهو يلامس الحدود التركية شمالاً، ومناطق سيطرة الجيش السوري جنوياً، ومناطق سيطرة الأكراد غرباً (عفرين)، وأخيراً مناطق سيطرة «داعش» شرقاً (جرابلس).
والسيطرة على هذا الممر، الذي يتراوح عرضه ما بين 5 و10 كيلومترات، ستكون خطوة تمهيدية للسيطرة على نقاط أخرى فـي الشمال السوري، بما يمهّد الطريق للمضي قدماً فـي معركة حلب الكبرى.
وستسهل السيطرة على ممر أعزاز على الجيش السوري ووحدات الحماية الكردية تقطيع اوصال جبهات المجموعات المسلحة من جهة، وسد خط الإمداد الرئيسي عنها من البوابة التركية من جهة ثانية، على ان تستكمل هذه العملية بالسيطرة على الطريق المؤدية الى معبر باب الهوى غرباً، وطريق «الكاستيلو» فـي الضواحي الشمالية لحلب، الذي يعتبر خط الإمداد الأخير للمجموعات المسلحة فـي الأحياء الشرقية نحو الريف الريف الجنوبي الغربي، بما يسمح للجيش السوري البدء بمعركة إدلب بالوصول الى خان شيخون، ومعرة النعمان فـي ريف إدلب، وفتح طريق حمص-حلب.
وفـي ما يتعلق بالاكراد، ثمة هدف استراتيجي وراء ذلك كله، وهو ربط معقلين مهمين لهما، اي عفرين (غرباً) وكوباني (شرقاً)، وهو أمر إن تحقق، فسيؤدي الى طرد مسلحي تنظيم «داعش» وفصائل مسلحة اسلامية اخرى من شريط حدودي يمتد على مسافة 90 كيلومتراً، بما يعنيه ذلك من سد كل المنافذ الحدودية مع تركيا فـي شمال سوريا وبالتالي سقوط مقترح المنطقة الآمنة (أو العازلة) عسكرياً.
ولعل نظرة سريعة على المعلومات التي توردها المواقع التابعة للمجموعات المسلحة تبدو كافـية لرسم المشهد العام للأوضاع الميدانية فـي حلب وحتى الآن، يبدو أن العمليات العسكرية، سواء تلك المرتبطة بالتحالف السوري-الروسي أو تلك الخاصة بالأكراد، تسير فـي الاتجاه المرسوم لها، وإن تفاوتت وتيرتها بالنظر الى اعتبارات عسكرية وسياسية وتعقيدات ميدانية متوقعة، سواء لجهة انهيار الروح المعنوية لدى الجماعات المسلحة وتآكل ارادة القتال فـي صفوفهم، مع ارتباك واضح وتبادل للاتهامات، فـي مقابل قدرة متصاعدة للجيش السوري على التوسّع والسيطرة على مناطق واسعة تتجاوز ريف حلب وريف لتصل الى إدلب، ما يمنحه هامش أكبر للمناورة العسكرية خاصة بعد سيطرته بالكامل على ريف اللاذقية الشمالي بعد دخول قواته الأربعاء الماضي لبلدة كنسبا، آخر معاقل المسلحين فـي المحافظة الساحلية.
قلق تركي-سعودي
ولكن العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش السوري تحت اسم «من النهر الى البحر»، بغطاء جوي روسي متين، يدرك الجميع أنها ستكون طويلة ومعقدة، ولكن ليست مستحيلة، ما يجعل اللاعبين التركي والسعودي الى النظر بقلق شديد الى التحولات الدراماتيكية فـي الشمال السوري.
ولكل من تركيا والسعودية أسبابهما الخاصة للتدخل المباشر لكبح الاندفاع السوري- الروسي والكردي.
وبالنسبة الى تركيا، فإن سقوط حلب يمثل نهاية لطموحات رجب طيب أردوغان السورية، بالنظر الى رمزية المدينة بالنسبة للأتراك منذ أيام العثمانيين. لكن الاهم، أن نجاح «وحدات حماية الشعب» فـي وصل مقاطعتي عفرين وكوباني، يعني اكتمال عقد الإدارة الذاتية الكردية على طول الحدود السورية-التركية، وبالتالي نشوء امر واقع كردي يعتبر من المحظورات فـي الأمن القومي التركي.
أما بالنسبة الى السعودية، فإن سقوط حلب يعني هزيمة المجموعات المسلحة الموالية لها، وخنقها فـي مناطق مقطعة الأوصال (مثل ادلب، الغوطة الشرقية)، وبالتالي استحالة تنفـيذ أي عملية عسكرية تعوّض الانتكاسة التي منيت بها تلك المجموعات على الجبهة الجنوبية (درعا).
وهذا ما يفسّر التحركات الأخيرة لكل من تركيا والسعودية، واللتين اختارتا، على ما يبدو، الدخول مباشرة على خط جبهات القتال السورية، لجهة الإعلان السعودي عن تشكيل تحالف عسكري للتدخل العسكري فـي سوريا، وتهديدات تركيا بعمل عسكري ضد الأكراد فـي حال سقوط أعزاز، وهو ما مهّدت له بقصف مدفعي لمواقع «وحدات حماية الشعب» فـي عفرين.
وبالرغم من الهستيريا التركية والسعودية، والتي تدفع بالبعض قصداً أو عن حسن نية فـي التحذير من ان معركة حلب تتوقف عندها حرب عالمية ثالثة، فان الأتراك والسعوديين، مهما هددوا، لن يستطيعون تخطي الدور المرسوم لهم فـي الحرب السورية، فـي ظل الموقف الأميركي المتردد ازاء الأحداث فـي سوريا.
وثمة رأيان يفسران التردد الأميركي، الأول يقول ان الادارة الاميركية الحالية لن تكون قادرة على اتخاذ اي خطوة حاسمة فـي الملف السوري، خصوصاً اذا كانت على قدر عال من التصادمية مع الروس، مع بدء العد التنازلي للانتخابات الرئاسية فـي تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. والثاني ينطلق ممّا يُنشر فـي الصحافة الأميركية ومراكز الدراسات فـي الولايات المتحدة بشأن الاستراتيجية الأميركية فـي الصراع السوري، بانتظار تبلور استراتيجية جديدة حين يتسلم خليفة باراك اوباما مفاتيح البيت الأبيض.
وفـي العموم، فإن كل ما يجري اليوم فـي سوريا هو سباق مع الزمن الى حين اكتمال المشهد الانتخابي فـي الولايات المتحدة. النظام السوري وروسيا سيسعيان بالتأكيد الى تحقيق مكاسب عسكرية حاسمة فـي مرحلة العد التنازلي للانتخابات الرئاسية الأميركية، فـيما السعودية وتركيا اللتان تتسابقان الى الهزيمة، ستلقيان بثقلهما، من دون ادنى شك، للحد من نزيف الخسائر أمام الزحف السوري الكبير، وفـي ظل هذا السباق المحوم، فإن الكلمة ستكون للسلاح، رغم الحديث عن استئناف «جنيف ٣» فـي ٢٥ شباط (فبراير) المقبل، والجهود الروسية-الأميركية للتوصل الى اتفاق لوقف اطلاق النار فـي سوريا.
الأسد: السعودية وتركيا مجرّد تابعَين
اعتبر الرئيس السوري بشار الأسد أنّ «من الصعب» إرساء وقف لإطلاق النار خلال أسبوع كما اتّفق فـي لقاء ميونيخ.
ورأى، فـي حديثه أمام أعضاء مجلس نقابة المحامين المركزية والمجالس الفرعية فـي المحافظات فـي دمشق الأسبوع الماضي، أنّ قرار التدخل براً فـي سوريا لا تمتلكه تركيا والسعودية، مشيراً إلى أنّ «الحقيقة عندما نناقش إذا كانت تركيا أو السعودية ستهاجمان، فهذا يعني أننا نعطيهما حجماً كبيراً، وكأنهما دولتان تمتلكان قراراً وتستطيعان أن تغيّرا الخريطة، هما مجرد تابعَين منفّذين حالياً».
ورأى أنهما «تقومان بدور البوق بهدف الابتزاز، ولو كان مسموحاً لهما لبدأتاه (الهجوم) منذ زمن طويل»، لافتاً إلى أنّ «علينا أن ننظر للسيد، لسيد هؤلاء، إذا كانت هناك رغبة فـي الدخول فـي مثل هذه الحرب بين القوى الكبرى أو لا».
Leave a Reply