تمر العلاقة بين رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط في واحدة من أسوأ مراحلها في هذه الأيام، بعدما ارتفع منسوب خلافاتهما المتراكمة إلى حد غير مسبوق، أدى إلى قطيعة تامة.
وبعدما ظلت أزمة المختارة–بيت الوسط «صامتة» لفترة طويلة، حيث كانت محصورة ضمن نطاق الغرف المغلقة، خرجت مؤخراً إلى العلن وتسرب توترها إلى الـ«تويتر» الذي بات من الأدوات الأساسية في «عدّة الشغل» لدى جنبلاط، حتى أنه يكاد لا يمر يوم من دون أن يترك الزعيم الدرزي بصمة له عبر حسابه على «تويتر».
وهكذا، لم يتردد رئيس «التقدمي» في اطلاق تغريدة قاسية، «لسعت» رئيس الحكومة، إذ قال فيها: لماذا لا تمر جميع المناقصات على إدارة المناقصات لمنع حيتان المال وحديثي النعمة والمفلسين الجدد (قاصداً الحريري) من نهب الدولة؟
تبليط البحر
وأتت هذه الرسالة بعد جملة من إشارات الانزعاج التي أرسلها جنبلاط تباعاً، وعكست تذمره من السياسة المتبعة من رئيس «تيار المستقبل»، مؤكداً أن حليفه الوحيد هو الرئيس نبيه بري.
ولم يتأخر الحريري، بدوره، في اللجوء إلى رد من العيار الثقيل على رسالة جنبلاط، فاتهمه خلال أحد الإفطارات الرمضانية بأنه من رموز الفساد، رافضاً أن يتلقى منه دروساً بمكافحة الفساد، ومضيفاً: «نعم.. أنا من المفلسين الجدد». بل وصل الأمر بالحريري إلى حد أن يقول لجنبلاط، من دون أن يسميه: بلّط البحر.
وما لبث جنبلاط أن رد على الحريري، مشيراً إلى أن تبليط البحر هو من اختصاص «سوليدير» (في إشارة إلى أعمال الردم التي تقوم بها سوليدير).
وبرغم أن التجارب في لبنان تثبت أنه لا توجد عداوات دائمة وتحالفات دائمة، وأن وجهة العلاقات السياسية تتبدل تبعاً لما تقتضيه المصلحة، إلا أنه يبدو أن ترميم الجسور المتصدعة بين المختارة وبيت الوسط ليس سهلا هذه المرة، بل يحتاج إلى الجهد والوقت، لاسيما أن الجرح عميق ولا تكفي «المراهم» التقليدية لمداواته.
وكان لافتا للانتباه، أنه وفي مقابل ابتعاد جنبلاط عن الحريري، بدا الثنائي الشيعي (أمل وحزب الله) حريصاً على «احتضانه» وتفهم مطالبه، وهو الأمر الذي عكسه التنسيق الوثيق بين بري وجنبلاط من جهة، وتشديد السيد حسن نصرالله في أحد خطاباته على ضرورة وضع قانون انتخاب توافقي يرضي الجميع، من دون اللجوء إلى خيار التصويت في مجلس الوزراء.
أسباب الافتراق
ولكن، لماذا حصل هذا الافتراق الحاد بين الحريري وجنبلاط، بعدما كان كل منهما يحرص على «مداراة» الآخر، ومراعاة خصوصيته وحساباته؟
أغلب الظن، أن هناك رواسب واسباباً غير مباشرة لهذه الازمة تعود إلى سنوات خلت، حين «انقلب» جنبلاط، وفق قناعة «تيار المستقبل»، على الحريري و«14 آذار»، وقرر دعم حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تشكلت بعد إسقاط حكومة الحريري.
صحيح، أن الرجلين تمكنا مع الوقت من تجاوز تلك الواقعة، على قاعدة البراغماتية السياسية، لكن جذواتها بقيت على الأرجح تحت الرماد.
أما الأسباب المباشرة فترتبط بمرحلة ما بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. حيث يعتقد جنبلاط أن الحريري اندفع بعيدا في تحالفه المستجد مع عون والتيار الوطني الحر، إلى درجة أن معالم ثنائية مسيحية–سنية بدأت تظهر في السلطة، في استعادة لحقبة تاريخية غابرة، وفق ما يشعر به رئيس «التقدمي»، وهو الأمر الذي يُقلق الطائفة الدرزية ويُحرّك لديها الهواجس الكامنة، لأن من شأنه أن يعبث بالتوازنات الداخلية المرهفة التي لا تحتمل إعادة إنتاج أي نوع من أنواع الثنائية.
وتبعا للمناخات السائدة في محيط جنبلاط، فإن الزعيم الدرزي يأخذ على الحريري مبالغته في مسايرة رئيس الجمهورية على حساب المكونات الأخرى، من دون مراعاة مقتضيات الواقع اللبناني الدقيق، وخصوصية العلاقة القديمة التي ربطت «تيار المستقبل» والحزب «التقدمي»، لاسيما في مرحلة «14 آذار» التي كان جنبلاط أحد أركانها وبنى خلالها شراكة استراتيجية مع الحريري.
ارتياب
ولعل جنبلاط يخشى من وجود صفقة ضمينة بين عون والحريري، أفضت إلى قبول الحريري بانتخاب الجنرال رئيساً للجمهورية وتتضمن تفاهما حول رزمة من المصالح المشتركة على أكثر من صعيد. وهناك بين المقربين من رئيس «التقدمي» من لا يخفي ارتيابه في وجود قطب مخفية في مشاريع حيوية تتعلق بالكهرباء والنفط وغيرهما، غامزاً بذلك من قناة اتفاق غير معلن جرى ترتيبه بين الوزير جبران باسيل ونادر الحريري، في مرحلة التفاوض حول انتخاب عون.
وما ساهم في تفاقم استياء الزعيم الدرزي من سلوك الحريري، هو ما يفترض جنبلاط أنه تجاهل متعمد من رئيس الحكومة لمصالحه الانتخابية في الجبل، في معرض المفاوضات التي جرت حول قانون الانتخاب، خصوصاً عندما وافق الحريري على «المشروع التأهيلي» الذي كان باسيل قد اقترحه في السابق، برغم معارضة جنبلاط الشديدة لهذا المشروع.
ويبقى السؤال: هل سيخوض الحريري وجنبلاط الانتخابات النيابية المقبلة وهما مفترقان، أم أن المسافة الفاصلة عنهما كافية لإعادة وصل ما انقطع بينهما؟
Leave a Reply