تحل الذكرى التاسعة للاعتداءات الإرهابية التي تعرضت لها أميركا في 11 أيلول 2001، هذا السبت، محملة بالكثير من التناقضات. فمشاعر الكراهية تزدهر لدى شرائح دينية واجتماعية أميركية ضد الإسلام والمسلمين في تجل أكثر حدة لظاهرة الإسلاموفوبيا (التخويف من الإسلام والمسلمين)، ومشاعر التسامح والتضامن مع أتباع هذا الدين من قبل شرائح أخرى من المجتمع الأميركي الديني والمدني والحقوقي والسياسي، تتجلى في أحاديث ومواعظ دينية وسياسية على أعلى المستويات، وصولا الى رئيس البلاد باراك أوباما.
ليس العمل الشرير الذي كان ينوي تنفيذه أحد القساوسة في كنيسته بولاية فلوريدا والمتمثل في الدعوة الى جعل الذكرى التاسعة لاعتداءات 11 أيلول يوما عالميا لحرق نسخ من القرآن (قبل أن يتراجع في اللحظة الأخيرة).. ليس هو أفضل الأوجه وأكثرها شعبية خلال الاحتفاء بهذه الذكرى الأليمة التي غيرت الكثير من المفاهيم في ما يطلق عليه مجازا اسم صراع الحضارات الذي هو في الحقيقة صراع يقوم على خلفيات مصلحية واستعمارية أكثر منها عقائدية وهذا بحث لا مجال للخوض فيه في هذه العجالة.
فلقد سمعنا الكثير من تصريحات الاستنكار من قادة دينيين مسيحيين في أميركا وخارجها، للطريقة التي كان ينوي من خلالها القس تيري جونز راعي “كنيسة الحمام العالمية” في مدينة غينسفيل بولاية فلوريدا الاحتفاء بذكرى الحادي عشر من أيلول.
والأصوات الناعقة مع هذا الصوت النشاز في تلك الكنيسة المنسية لم تكن بأي حال أكثر من الأصوات المستنكرة لإقامة شعائر جهنمية يجري خلالها إقامة “محرقة” للقرآن الكريم في الذكرى التي يحرص مسلمو أميركا على إحيائها في كل عام الى جانب أخوتهم الأميركيين ويؤكدون خلالها على سماحة الدين الاسلامي الذي لا يقر بأي وجه من الأوجه ذلك الاعتداء الارهابي على الأبرياء والمباني في بلدهم الثاني أميركا. وهم من تحملوا وزر هذا العمل الشنيع على مر تلك السنوات، على أشكال من التمييز والاضطهاد واستلاب الحقوق والحريات ولكنهم عضوا على جراحهم وعقدوا العزم على عدم التخلي عن الأمل في عودة أميركا الى نفسها، رغم عمق الجرح الذي أصابها وأصابهم في الآن ذاته، وموئلا للتسامح، وواحة للحريات مثلما كانت على مدى تاريخها، ما خلا محطات قليلة تجاوزتها أميركا بروح التسامح إياها التي لن يستطيع ذلك القس الموتور أن يطفئها في قلوب الأميركيين.
غير أن ما يثير الدهشة هو تلك الضجة الكبرى التي أحدثها هذا الرجل وملأت أصداؤها أميركا والعالم فطغت الأجواء السلبية تجاه المسلمين، في هذه الذكرى على ما عداها من اجواء.
ولما ظلت مقارنة أعداد المؤيدين والداعمين لـ”اليوم العالمي لحرق القرآن” حقيرة مقارنة بالأصوات العاقلة والرزينة والمسؤولة التي حذرت من هذه الخطوة، فان التغطية الاعلامية المكثفة التي حظي بها ذلك القس تثير الريبة من حملة منسقة تخوضها وسائل الإعلام الأميركية لتزويد ظاهرة الإسلاموفوبيا بجرعة كبيرة من الحقد والكراهية وبثها في صدور البسطاء من الأميركيين، بالتواكب مع تلك الحملة الخبيثة على مشروع بناء مركز ثقافي اسلامي بالقرب من موقع الهجمات في مانهاتن المعروف باسم “غراوند زيرو”.
يفرح المرء لسماع أن قساوسة ورهبان مسيحيين أميركيين سيقومون بتلاوة سور من القرآن الكريم في كنائسهم وأديرتهم خلال قداديس احياء ذكرى 11 ايلول، للتأكيد على تضامنهم مع اخوتهم في المواطنية من أتباع الديانةالاسلامية، لكن هذا الفرح يبقى ناقصا وتنغصه تلك التصريحات الصادرة عن مسؤولين سياسيين ومدنيين وعسكريين تحذر من إحراق القرآن الكريم، لما قد يجره من تداعيات مؤذية للجنود والمواطنين الأميركيين الذين يخدمون في مناطق العالم الاسلامي.
فمنطلقات التحذير من هذا العمل على لسان الرئيس أوباما وفي بيان الخارجية الأميركية وعلى لسان القائد العسكري ديفيد بترايوس لا تشير الى الحرص على قيم أميركية يجب أن لا تنتهك، وعوضا عن ذلك تربط تحذيرها بامكانية تعرض الأميركيين في الخارج الى المخاطر. بالطبع من حق الادارة الأميركية أن تخشى على مواطنيها. لكن ماذا يضيرها لو وضعت تحذيراتها في خانة الحرص على مشاعر مسلمي أميركا والعالم وسلطت الضوء على تلك القيم الأخلاقية التي ندرك ويدركون أن الأغلبية الغالبة من الأميركيين لاتزال تتمسك بها، وأهمها قيمة حرية العبادة وانشاء المراكز الدينية في أي مكان على الأرض الأميركية؟
أما المسلمون في هذه البلاد فقدرهم أن يحيوا عيدهم هذه السنة تزامنا مع اجواء الاحتفال بذكرى اعتداءات 11 أيلول، وهذا التزامن يضاعف من حجم الأعباء عليهم أفرادا ومؤسسات، للتواصل والتفاعل مع محيطهم الأميركي الأشمل وبث رسائل المحبة والتسامح وتعزيز قيم الانتماء والولاء لوطنهم الثاني بالفعل قبل القول. فممارسة المواطنية بكل أوجهها يبقى حقا لهم وواجبا عليهم، وكل عربي ومسلم في هذه البلاد عليه أن يدرك أن مواطنيته يجب ألا تقل شأنا عن أية مواطنية أخرى، يمارسها كفعل إيمان بهذه البلاد التي أعطيناها أغلى ما نملك وبادلتنا العطاء بالعطاء رغم قساوة الظروف التي عايشناها في العقد الأخير والتي نأمل أن تنطوي صفحتها مثلما كانت الحال في محطات من التاريخ الأميركي مع جاليات اثنية ودينية غير مسلمة.
رهاننا يبقى على عودة أميركا الى نفسها وقيمها وتاريخها وأن نبقى نحن العرب والمسلمين أمناء على مصالح وأمن هذه لبلاد التي لن نجد خارجها واحة لممارسة حرياتنا المدنية (والدينية) مثلما عليه الحال في هذه البلاد.
وفي ذكرى 11 أيلول نتقدم من عوائل الضحايا ومن أبناء الشعب الأميركي بخالص المواساة مؤكدين أن مصاب أميركا في ذلك الاعتداء الآثم هو مصاب كل عربي ومسلم أميركي وكل ذي ضمير على وجه هذا الكوكب.
عيد فطر سعيد، أعاده الله على جميع العرب والمسلمين في هذه البلاد وفي كل الأقطار بالخير واليمن والبركات.
وكل عام وانتم بخير..
Leave a Reply