بيروت – كمال ذبيان
تسليح الجيش اللبناني موضوع مطروح منذ الاستقلال، وكان الخلاف حوله بين اللبنانيين قائماً منذ أن انفصل الجيشان اللبناني والسوري عام 1946 عندما كانا جيشاً واحداً تحت الانتداب الفرنسي، كما كانت الجمارك وبنك سوريا ولبنان.
ففي كل مراحل الأزمات التي مرّ بها لبنان، كان الجيش سبباً من اسبابها، حول مهامه، ثم عقيدته الوطنية، الى دوره في مواجهة العدو الصهيوني، وفي استخدامه الداخلي، ولقد تسبب هذا الخلاف بحصول انقسام لبناني حول الجيش، و في داخله أيضاً، لأنه يعكس صورة وواقع المجتمع اللبناني الذي منه ينحدر ضباطه وأفراده، وبأمراضه الطائفية والمذهبية يتأثرون، ولم يتخلصوا من انتماءاتهم السياسية والجغرافية والدينية، لصالح السيادة الوطنية اللبنانية
من تدريبات الجيش اللبناني |
ففي تاريخ المؤسسة العسكرية، أن وحدتها تشظّت في أكثر من أزمة وطنية أو سياسية، وكانت الحرب الأهلية في منتصف السبعينات إحدى أكثر المراحل التي تشرذم فيها الجيش وتحوّل الى ميليشيات الطوائف والمذاهب، فانشقّ عنه «جيش لبنان العربي» بقيادة الملازم أول أحمد الخطيب الذي دعمته حركة «فتح» وانضم الى مقاتلي المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية، ثم انقلاب اللواء عزيز الأحدب، و«جيش العميد أنطون بركات» الذي قاتل الى جانب حزبي «الكتائب والأحرار»، و«جيش فخر الدين»، ثم «جيش سعد حداد» الذي أنشئ في «الشريط الحدودي» وتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، ليخلفه اللواء أنطوان لحد الذي انسحب مع العدو الإسرائيلي في 25 أيار 2000، وانهارت ميليشياته.
هذا المسار للجيش جاء تصحيحه مع اتفاق الطائف، الذي حدّد عقيدته القتالية، ومَن هو الصديق والعدو، وثبت مهمته في مواجهة العدو الإسرائيلي والتنسيق والتناغم مع المقاومة الوطنية والاسلامية التي احتضنت مع الجيش من قبل الشعب اللبناني، الذي خرجت قلة منه تشكك بمقولة «الجيش والشعب والمقاومة» التي حقّقت التحرير في الجنوب عام 2000، وحازت على شرعية من الحكومات المتعاقبة وثقة مجلس النواب، وعززت الصمود عام 2006 بوجه العدوان الإسرائيلي لتنطلق نظرية ضرورة قيام استراتيجية دفاعية وطنية، فطرحها البعض عن حسن نيّة وتوجّه وطني، والبعض الآخر وهو من قوى 14 آذار قدمها كبديل عن وجود المقاومة التي عليها أن تسلم سلاحها للجيش وتنسحب من الدفاع عن لبنان، وقد وقع الخلاف حول هذين التوجهين اللذين تسبّبا بتعطّل الحوار الذي كان يعقد في القصر الجمهوري في بعبدا برعاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان الذي قدم حياد لبنان عن المحاور والصراعات الخ إنتهاء بما سمي اعلان بعبدا.
والخلاف حول الاستراتيجية الوطنية الدفاعية، هو حول موضوعين هما: الأول تسليح الجيش كمّاً ونوعاً ووجهة استخدام، والثاني القرار السياسي.
وأما حول موضوع السلاح للجيش، فهو ممنوع وبحسب اتفاقية الهدنة مع العدو الإسرائيلي التي وقّعت عام 1949 برعاية الأمم المتحدة، وجرى تحديد عديد الجيش وكمية ونوعية سلاحه وفض تمركز سلاح ثقيل في الجنوب لاسيما جنوب الليطاني وهو يطبّق اليوم وفق قرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن بعد الحرب الإسرائيلية صيف 2006، والذي منع تواجد المقاومة، وأنيط بالجيش منع اختراق الخط الأزرق بمعاونة القوات الدولية، وهو لم يتأخر في أن يتصدّى لأية محاولة من العدو الإسرائيلي للتقدّم باتجاه الأراضي اللبنانية، وكانت معركة العديسة عند الشريط الشائك، على الحدود اللبنانية – الفلسطينية، شاهد على كيفية تسجيل الضباط والجنود البطولات عند الاعتداء على السيادة اللبنانية.
فلا تنقص المؤسسة العسكرية التدريبات ولا المعنويات ولا الكفاءات المهنية، بل السلاح المتطوّر والقرار السياسي، وهو ما كان مدار نقاش وسجالات وخلافات بين القوى اللبنانية، حيث كان فريق يمثّله حزب الكتائب ومعه أحزاب يمينية أخرى، ترفض تسليح الجيش وتصر على أن «قوة لبنان في ضعفه»، وأن الصداقات الدولية للبنان تؤمن له مظلّة من الاعتداءات الإسرائيلية، وكانت مطالبة من هؤلاء، بتحييد لبنان، وأن حياده يشكّل له الحماية أيضاً، وهذه الطروحات قابلها رفض من قبل قوى يسارية وتقدمية ومرجعيات إسلامية سياسية ودينية بضرورة تسليح الجيش بأسلحة متطوّرة من طائرات وصواريخ أرض – جو وتركيب «رادارات»، وقد أقرّ مجلس الدفاع المشترك الذي عُقد في القاهرة عام 1964، بأن يزوّد لبنان «برادار» متطوّر مع صواريخ أرض – جو، ليكون جيشه مسانداً لأي حرب تقع مع العدو الإسرائيلي، فتمّ تركيب الرادار في قمة جبل الباروك في منطقة الشوف ويشرف على سهل البقاع، ويمكنه رصد حركة الطيران الإسرائيلي عندما ينطلق من فلسطين المحتلة ولدى تحليقه في الأجواء العربية وفوق البحر الأبيض المتوسط، وكان أول هجوم نفّذه الطيران الحربي الإسرائيلي في حرب حزيران 1967هو تدمير «الرادار» الذي أقيم دون حماية جوية له، أو وجود شبكة صواريخ أرض – جو، كان لبنان أقرّ شراءها، فعقد اتفاقاً مع فرنسا لصواريخ «كروتال» والتي أثيرت عليها أسئلة حول ما رافقها من عمولة مالية وجّهت أصابع الاتهام فيها الى قائد الجيش آنذاك العماد إميل البستاني وورد اسم صهره النائب والوزير السابق جان عبيد، وفتحت محاكمة حولها، و لكنهما فرّا الى سوريا في العام 1970.
وفي عهد الرئيس أمين الجميّل، جرت عملية تسليح الجيش، ولم تكن لمواجهة العدو الإسرائيلي، بل كان القرار الأميركي أن لبنان الذي كاد أن يعقد معاهدة سلام مع الكيان الصهيوني عبر اتفاق 17 أيار، كان يتم تحضيره لحماية هذه المعاهدة وضرب المقاومة الوطنية التي ظهرت مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران عام 1982، وبكّرت في عملياتها ضدّه، ونجحت في تحرير العاصمة بيروت، فعقد الجميّل صفقة شراء طائرات «البوما» التي تبيّن أنها رومانية الصنع وليست فرنسية ، واكتشفت العمولات التي حصلت من هذه العملية، كما بعدم صلاحية وفعالية هذه الطائرات الفاسدة، وحققت لجنة برلمانية شكّلها الرئيس نبيه برّي برئاسة نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي في هذه الصفقة التي جرى تمييع التحقيق حولها، كما في كل ملفات الفساد في لبنان، حيث تضيع الحقيقة ويتمّ تجهيل الفاعلين.
ففي كل صفقة شراء سلاح للجيش كانت تظهر فضائح من عمولات الى فساد السلاح وعدم فعاليته، إضافة الى أن لا قرار سياسي لبناني لتسليح الجيش، وإن وُجد فإن رفضاً دولياً على منع الجيش من امتلاك أسلحة متطورة ترفض «إسرائيل» أن يحصل عليها متذرعة، بأن هذه الأسلحة ستقع في يد المقاومة، وهكذا بقيت عملية تسليح الجيش تقتصر على آليات وبنادق فقط، كان يحصل عليها كهبات اوباسعار مخفضة من بقايا أسلحة أميركية أو أطلسية او شرقية وعربية، وبعضها يعود صنعه الى عقود بعيدة، كما أن بعض السلاح كان يلزمه إعادة تأهيل، كما في طائرات «الغازيل» العشرة التي قدمتها الإمارات العربية المتحدة للبنان، وكان ينقصها قطع غيار، وقد ظهرت حاجة لبنان الى طائرات مقاتلة سواء كانت مروحية أو حربية، في معركة نهر البارد، فاضطرّ الجيش الى استخدام مروحياته القليلة العدد، وغير المؤهلة للعمليات الحربية، ويتم استخدامها للنقل، مما دفع بقيادة سلاح الجو الى ابتكار قذائف عبر البراميل المتفجرة التي كانت تلقى من الجو عبر العين المجردة ودون تقنيات، وهذا الذي دفع بوزير الدفاع الياس المر، وعند زيارته الى روسيا الى طرح تسليح الجيش وتزويده بالطائرات فقدّمت موسكو عشر طائرات ميغ -29ل، لكن الخبراء العسكريين نصحوا استبدالها بمروحيات تشبه «آباتشي» الأميركية، وقد بحث الرئيس سليمان هذا الموضوع أثناء زيارته الى روسيا، وتمّ التجاوب مع الطلب، لكن لم تصل الهبة الروسية، وخسرها الجيش اللبناني.
ولقد طرق لبنان أبواب كل الدول للحصول على سلاح للجيش، وكان يتلقى الوعود التي كانت تنفّذ أحياناً وتهمل في كثير من الأحيان، وعقدت مؤتمرات دولية لمنح لبنان مساعدات للجيش وكان آخرها مؤتمر في روما أقرّ تسليح الجيش، لكن دون تلبية المطالب التي رفعها، حيث مازالت الأسلحة تقتصر على التقليدية، فكانت خيبة أمل من أن لا قرار دولي بتسليح الجيش بما يغضب «إسرائيل» أو يهدّد أمنها الذي تتعهّده أميركا وحلفاؤها، وأن السلاح المطلوب هو للإستخدام الداخلي ضد «حزب الله» لنزع سلاحه، أو تحجيم دوره، الذي هو برأي دول خليجية وأخرى أوروبية ومعها أميركا أن قوة «حزب الله» العسكرية أعطت إيران نفوذاً في لبنان، وأن الانتصارات التي حققتها على العدو الإسرائيلي، صنعت منه عملاقاً عربياً، حظي بتأييد من الشعوب العربية وأخرى الحرة والشريفة في العالم، والمطلوب هو إضعاف هذه القوة العسكرية التي فشلت «إسرائيل» بضربها أثناء العدوان في صيف 2006، ويجري إنهاكها في المعارك في سوريا التي تقاتل فيها، دفاعاً عن عمقها الاستراتيجي وممر السلاح إليها، وتشويه صورتها على أنها تخوض قتالاً مذهبياً. وكما سلّحت إيران المقاومة ومثلها فعلت سوريا، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقدّمت بعرض لتسليح الجيش، إلا أن الحكومة اللبنانية لم تتجاوب مع العرض الإيراني، إذ أن أطرافاً لبنانية يرفضون التسلح من إيران، كما لا يريدون إزعاج السعودية التي تقدّمت بهبة بمبلغ ثلاثة مليارات دولار، على أن تقوم فرنسا بتسليح الجيش بما يحتاجه، وقد تقدمت قيادة الجيش بلائحة مطالبها، لكن فرنسا تريّثت بالتجاوب، لأنها تريد أن تعرضها على «إسرائيل» التي ترفض تسليح الجيش الذي خاض معركته الأخيرة ضد الإرهاب والتكفيريين في عرسال، بسلاح تبيّن أنه أقل نوعية وجودة مما يملكه المسلحون المزوّدون بأسلحة متطورة، وأن الجيش تنقصه المروحيات والطائرات الحربية والصواريخ المتطورة لمطاردة المسلحين القابعين في الجرود وبمساحة جغرافية واسعة، مما أربك مهامه التي نجح في أماكن وفشل في أخرى، إذ كشفت المعركة كما معركة نهر البارد، والتصدي للعدو الصهيوني، أن الجيش الذي يقاتل عدواً في الخارج هو «إسرائيل» وفي الداخل هو الإرهاب والتكفير، فإن تسليحه بات أمراً ملحاً، إذ أن في المليارات الثلاثة المقدمة من السعودية لتسليح الجيش لم يحصل أي تقدّم فيه، لأن لائحة المؤسسة العسكرية لأسلحة متطورة، تخشى مصادر عسكرية وسياسية، أن تكون وراء عملية التأخير، عمولات وصفقات كما في حالات أخرى، إذ بدأت تخرج الى العلن عن أن عمولات طالب بها مسؤولون سعوديون ولبنانيون وفرنسيون، وأن المبلغ المطلوب هو 500 مليون دولار، تحدّثت عنه شخصيات سياسية ووسائل إعلامية.
وأدّى تعثر تسليح الجيش بثلاثة مليارات دولار، وفي ظل المعركة التي يخوضها الجيش ضد الإرهاب، وهي المعركة التي تشنّها السعودية أيضاً، فأمر العاهل السعودي، وكي لا تتأخر عملية الشراء بثلاثة مليارات دولار، أن يقدّم هبة إضافية بقيمة مليار دولار تسلّمها الرئيس سعد الحريري وحملها الى لبنان لتصرف مباشرة على حاجات الجيش والقوى الأمنية، وقد اجتمع بها الحريري برئاسة رئيس الحكومة تمام سلا م وفور عودته المفاجئة الى بيروت والتي لم تكن متوقعة، بوضع المبلغ موضع التنفيذ ودون المرور بـ «البيروقراطية»، ولأن المعركة ضد الإرهاب لا توجب التأخير برفع تسليح الجيش الذي نجح في معركة عرسال وفي منع إقامة «إمارة إسلامية» تمتد من عرسال نحو البحر في الشمال، وهو ما كشفه قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي أكّد على أن الجيش منع وقوع فتنة سنّيّة – شيعية، كانت ستحصل لو نجح المسلحون التكفيريون بالتقدم من عرسال باتجاه اللبوة ذات الكثافة الشيعية أو مناطق مسيحية في رأس بعلبك والقاع.
إن تسليح الجيش كان لمواجهة العدو الصهيوني، فبات أيضاً حاجة ضرورية وطنية، ليستخدم باتجاه الجماعات الإرهابية والتكفيرية، وفي المعركتين العدو واحد إرهابي.
Leave a Reply