صبحي غندور
خيار التسويات هو المطلوب حالياً من قبل الأقطاب الدوليين حتّى لو كانت هناك «معارضات» لهذه التسويات على مستويات محلية وإقليمية. فالمراهنات العسكرية فـي أزمات سوريا واليمن وليبيا، وصلت إلى طريقٍ مسدود؛ بل أدّت المراهنات على الحلول العسكرية فـي السنوات القليلة الماضية إلى تصعيد العنف وإلى فتح أبواب المنطقة والعالم أمام قوًى مسلّحة متطرّفة، فـي مقدمتها «داعش».
ويشهد العالم فـي هذه الفترة تحرّكاً دبلوماسياً كبيراً بشأن الملف السوري، بعدما حصل اتفاق الدول الكبرى مع إيران بشأن ملفها النووي، ثمّ الإعلان عن مبادرات دولية وإقليمية خاصّة بالأزمة الدموية السورية.
والأمر لم يكن هكذا فـي الأشهر والسنوات القليلة الماضية. فالتباين فـي المواقف؛ بين موسكو وواشنطن، قد بلغ فـي السابق درجةً كبيرة من السخونة، خاصّةً فـي الموقف من تطوّرات الأوضاع السورية.
لكن يبدو من مسار التطوّرات والأحداث المتتالية أنّ إدارة أوباما جعلت من تفاهمها مع موسكو بشأن الملف النووي الإيراني مدخلاً لتنفـيذ أجندةٍ وضعها الرئيس الأميركي لنفسه فـي العام 2009 حين تولّى مقاليد الرئاسة الأميركية، ولم يتمكّن فـي فترة حكمه الأولى من تنفـيذها لاعتباراتٍ أميركية داخلية ولظروفٍ دولية لم تكن مشجّعة آنذاك على تحقيق تسويات.
فلقد تحدّث الرئيس أوباما فـي سنة حكمه الأولى فـي «البيت الأبيض» عن الحاجة لوقف السياسة الانفرادية الأميركية وللتخلّي عن أسلوب الحروب الاستباقية، وهما الأمران اللذان سارت عليهما إدارة جورج بوش الابن وأوصلا الولايات المتحدة والعالم إلى أزماتٍ سياسية وعسكرية واقتصادية كبيرة. والبديل عن هذه السياسة كان الإقرار الأميركي بعصر التعدّدية القطبية، وبالسعي لتفاهمات مع القوى الكبرى الأخرى فـي العالم من أجل صياغة تسويات لما هو قائمٌ من أزماتٍ دولية تهدّد، فـي حال عدم تدارك تداعياتها، مصير العالم كلّه.
أيضاً، لم تجد الإدارة الأميركية الحالية أيَّ مصلحةٍ فـي تصعيد التوتّر مع إيران أو فـي تبنّي مقولة الحكومة الإسرائيلية بشأن استخدام الضربات العسكرية على مواقع إيرانية، بل نظرت إدارة أوباما إلى هذا العمل العسكري المطلوب إسرائيلياً كخطرٍ أكبر على أميركا ومصالحها من أيّة حربٍ أخرى خاضتها فـي المنطقة.
لذلك حصلت التفاهمات الأميركية/الروسية على كيفـيّة التعامل مع الملف النووي الإيراني دون أن يعني ذلك «يالطا» جديدة الآن، أو تفاهماتٍ على توزيع الحصص الجغرافـية فـي العالم، كما حصل عقب الحرب العالمية الثانية بين موسكو وواشنطن. فالتفاهمات هي الآن على مبدأ تحقيق تسويات سياسية، وعلى منع استمرار الانحدار السلبي للملف السوري، وعلى توفـير أوسع جبهة دولية ممكنة لمواجهة خطر التطرّف والإرهاب المهدّد حالياً للجميع.
وستكون العقبة الكبرى أمام أي صيغة تسوية سياسية جادّة للأزمة السورية هي فـي جماعات التطرّف المسلّحة على المستوى الداخلي، وفـي إسرائيل ومن لديها من عملاء أو حلفاء، على المستويين الإقليمي والدولي. فلا مصلحة لهذين الطرفـين فـي إنهاء الصراع الدموي فـي سوريا أو فـي التفاهمات الدولية مع إيران، وما ستفرزه هذه المتغيرات الدولية من نتائج سلبية على كلٍّ منهما.
لكن هل هذه التسويات السياسية الممكنة الآن لأزماتٍ فـي المنطقة ومحيطها تعني «برداً وسلاماً» للأوطان العربية وشعوبها؟ الإجابة هي فـي الحدّ الأدنى بنعم، وفـي ظلّ الظروف العربية السلبية القائمة حالياً وما فـيها من مخاطر أمنية وسياسية على الكيانات الوطنية، لكن هي مراهناتٌ عربية جديدة على «الخارج» لحلّ مشاكل مصدرها الأساس هو ضعف «الداخل» وتشرذمه. فأيُّ حلٍّ يرجوه العرب لصالحهم إذا سارت التفاهمات الدولية والإقليمية تبعاً لمصالح تلك الأطراف غير العربية ولموازين القوى على الأرض، وليس لمرجعية الحقوق المشروعة للشعوب والأوطان؟!.
إنّ الأوطان العربية مهدّدةٌ الآن بمزيدٍ من التشرذم، ليس نتيجة حصيلة التدخل الأجنبي والدور الإسرائيلي فقط، بل أصلاً بسبب البناء الهش لدول هذه الأوطان، ولما فـيها من تخلّف فكري فـي مسائل فهم الدين ومسألة الهويّات المتعدّدة للإنسان.
أيضاً، المنطقة العربية لم تستفد بعد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن ومن انعدام الممارسة الصحيحة لمفهوم المواطنة. ولم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة فـي المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ فـي كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي ما زال تجاهلها قائماً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ طائفـية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولهدم الكيانات والمجتمعات العربية.
ثمّ، أليس ملفتاً للانتباه ما ظهر الآن، فـي العالمين العربي والإسلامي، من «إسرائيليّات» فاعلة بكثافة، حيث نجد عرباً ومسلمين يقومون بخوض «معارك إسرائيليّة» تحت رايات الديمقراطية أو الدين أو الطائفة، وهم عمليّاً يحقّقون ما يندرج فـي خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة، من سعي لتقسيم طائفـي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة.
وليست هذه التداعيات السلبية فـي التاريخ العربي المعاصر منفصلةً إطلاقاً عن مجرى الصراع العربي/الصهيوني الممتد لحوالي مائة عام، ولا هي أيضاً مجرّد «تفاعلات داخلية» عربية، «الخارج» منها براء. فهكذا هو حال المنطقة المترابطة أحداثها رغم تباين الأمكنة والأزمنة، وهكذا هو الواقع الآن رغم ما نشهد فـيه من طغيان للصراعات الداخلية أو ما تحاوله حكومة نتنياهو من جعل الصراع مع إيران «أولوية» عربية وإقليمية ودولية.
أليس تسليح بعض الجماعات الدينية المتطرفة ودعمها مالياً وإعلامياً هو فائدة إسرائيلية كبيرة حيث تشترط إسرائيل الآن على الفلسطينيين الاعتراف بها كدولة «يهودية»، وهذا يتطلّب حتماً وجود دويلات أخرى فـي المنطقة على أسس دينية وطائفـية؟!.
أليس تهميش الصراع مع إسرائيل ومنع المقاومة المسلّحة ضدّها هو مصلحة إسرائيلية، بينما يتمّ إصدار الفتاوى للتحريض على استخدام العنف فـي صراعاتٍ عربية داخلية؟!. وكم هو محزنٌ هذا المشهد الذي تجتمع فـيه مصالح إسرائيل مع جهود أطراف أخرى بالمنطقة تعمل ضدّ مشاريع التسويات السياسية للحرب الدامية فـي سوريا أو حتّى بخصوص ما جرى من اتفاق دولي بشأن الملف النووي الإيراني، وكم هو مؤسفٌ ومذلٌّ للإدارة الأميركية أيضاً رؤية «اللوبي الإسرائيلي»يتحرّك فـي واشنطن مع كل أعضاء الكونغرس لمنع التصديق على الاتفاق الدولي مع إيران، تماماً كما فعل هذا «اللوبي» سابقاً للتحريض على ضربات عسكرية أميركية ضدّ سوريا فـي نهاية العام 2013!.
إذن، مشروع التسوية السياسية للأزمة السورية هو الآن بصيص نورٍ خافت فـي نفقٍ عربيٍّ مظلم، وستكون هذه المهمّة الصعبة فـي حال نجاحها بدايةً لتسوياتٍ إقليمية عديدة فـي المنطقة، ولاجماً كبيراً لأفكار وممارسات تفتيتيّة لشعوب ودول المنطقة العربية والعالم الإسلامي، لكن البديل عنها، فـي حال فشلها، هو مزيدٌ من الدّم والدّمار، ومن اتّساع رقعة الصراعات، ومن استنزاف للثروات العربية، ومن تهجير لمزيدٍ من مئات الألوف من المواطنين العرب الأبرياء الذين هم الآن ضحايا لسوء أوضاع أوطانهم، ولصراعات القوى الإقليمة والدولية على هذه الأوطان ومواقعها وثرواتها.
Leave a Reply