مع الانتهاء من الانتخابات النيابية في لبنان، وتحديد حجم الكتل النيابية نتيجة فرز صناديق الاقتراع، فإن إنتظام المؤسسات الدستورية، بدأ مع انتخاب رئيس لمجلس النواب نبيه برّي ونائبه ايلي فرزلي الذي عاد بعد غياب 13 سنة، وهيئة أعضاء مكتب المجلس، لينطلق المجلس بدوره التشريعي والرقابي المتعثر بعد التمديد له ثلاث مرات منذ العام 2013، حيث سيعمل الرئيس برّي الذي يتولى رئاسة المجلس منذ العام 1992، على تنشيط العمل التشريعي، في إصدار قوانين وتحديث أخرى يعود بعضها إلى زمن السلطنة العثمانية والانتداب الفرنسي.
يضم المجلس النيابي الجديد، 79 اسماً جديداً 16 منهم نواب سابقون، وبعضهم من صفوف الشباب، الذين بلغت نسبتهم حوالي 30 بالمئة، فيما ارتفع عدد النساء من أربع إلى ست، حيث يعوّل على دور تغييري للوجوه النيابية الجديدة التي عليها أن تثبت حضورها سواء تشريعياً عبر تقديم اقتراحات القوانين، أو رقابياً من خلال متابعة أعمال الحكومة ومدى مطابقتها لبيانها الوزاري الذي على أساسه تنال الثقة، إذ أن الحكومات وعلى مر العهود، لم تجرِ محاسبتها في مجلس النواب.
وفي هذا الإطار، يجري طرح فصل النيابة عن الوزارة، وهو ما أغفله الدستور رغم أن فصل السلطات (التشريعية والتنفيذة والقضائية) هو في صلب النظام الديمقراطي. وكان «التيار الوطني الحر» قد تقدم قبل سنوات اقتراح قانون لفصل النيابة عن الوزارة، ومارس ذلك في اختيار وزرائه من خارج كتلته النيابية وهو ما يحاول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أن يطبقه على تشكيل الحكومة الجديدة، إذا ما وافق رئيس الحكومة المكلّف على ذلك. وقد أعلن الرئيس الحريري أنه يؤيّد فصل النيابة عن الوزارة، وسيحاول بعد تكليفه رئاسة الحكومة للمرة الثالثة أن يقوم بذلك، كما أن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله أعلن في أثناء تقديم مرشحيه للانتخابات النيابية، وعدم ترشيح النائب محمد فنيش، بأن الحزب سيذهب إلى عدم ترشيح نواب إلى مقاعد وزارية، وهو ما تفعله «القوات اللبنانية»، ولكن هذه الإجراءات تبقى في إطار الأحزاب وغير ملزمة دستورياً.
الأقوى في الطائفة
نتائج الانتخابات الأخيرة أفرزت الأقوى في طوائفهم، فجاء انتخاب برّي رئساً لمجلس النواب، متطابقاً ما طرحه «التيار الوطني الحر» في انتخاب «الرئيس القوي» في طائفته، ثم في تحالفاته، وهذا ما انطبق على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وهو ما أقرّ به الوزير جبران باسيل، للرئيس برّي الذي لديه كتلة نيابية من 17 نائباً، بينهم 13 نائباً شيعياً، يضاف إليها، تأييد «حزب الله» ما وفر للرئيس برّي دعماً مطلقاً الطائفة الشيعية بنوابها الـ27، يضاف إليهم كتل نيابية أخرى كـ«تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، فيما أعلنت «القوات اللبنانية» أنها ستصوت بورقة بيضاء، كذلك طبق باسيل مبدأ الرئيس القوي أو الأقوى في طائفته وأعطى لأعضاء كتلة «لبنان القوي» حرية الخيار بالتصويت للرئيس برّي أو ورقة بيضاء، رغم الأزمة التي عصفت في العلاقة بينهما.
انتخب بري رئيساً للمجلس النيابي بـ98 صوتاً مقابل ٢٩ ورقة بيضاء وورقة ملغاة حملت اسماً سينمائياً لا يمت للنيابة بصلة.
تكليف الحريري
ووفقاً لنموذج الرئيس الأقوى في طائفته، فإن ذلك ينطبق على الرئيس سعد الحريري، كما انطبق على عون وبري، ولذلك فإن تكليف الحريري برئاسة الحكومة بات أمراً واقعاً، لأن لديه «كتلة نيابية» من 21 نائباً 17 منهم من الطائفة السنّيّة، إذ أن النواب السنة الآخرين فازوا كأفراد في دوائر مختلفة، ولا توجد كتلة نيابية موحدة تجمعهم.
في المقابل، فإن الدستور لا يشترط أن يكون لرئيس الحكومة كتلة نيابية وازنة أو حتى أن يكون نائباً، بل ينص على أن يدعو رئيس الجمهورية النواب المنتخبين لاستشارات نيابية ملزمة، ومن ينال الأكثرية النيابية من الأصوات تتم تسميته رئيساً للحكومة، وهذا تعديل أدخل على الدستور في اتفاق الطائف، وهو يحرر رئاسة الحكومة من أن تكون خاضعة لرئاسة الجمهورية.
وأعطى هذا الإصلاح الدستوري قوة لرئاسة الحكومة، وعزز أيضاً دور مجلس النواب في الإستشارات التي قليلاً ما يظهر وجود مرشحين متنافسين على رئاسة الحكومة، سوى ما حصل في العام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واستقالة الرئيس عمر كرامي، إذ تقدم مرشحان لرئاسة الحكومة هما نجيب ميقاتي وعبدالرحيم مراد، وأتت الظروف السياسية الإقليمية والدولية لصالح ميقاتي رئيساً للحكومة، وهو ما حصل في عام 2011 عندما استقالت حكومة الرئيس سعد الحريري بخروج 11 وزيراً منها من قوى «8 آذار»، فترشح كل من الحريري وميقاتي، لترسو على الأخير الذي كان مرشح «8 آذار» والحريري «14 آذار»، ورجّح الكفة النائب وليد جنبلاط الذي انقسمت كتلته –«اللقاء الديمقراطي»– بين مؤيدين للحريري وآخرين لميقاتي.
ويأتي تكليف الحريري هذه المرة دون منافسة. نتيجة تأييد الكتل الأساسية له، وهي «المستقبل» و«حركة أمل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، و«تكتل لبنان القوي» الذي يضم «التيار الوطني الحر» وحلفاءه، و«القوات اللبنانية» و«تيار المردة»، ونواب مستقلون، فما امتنع عن التسمية «حزب الله» وجمعية «العزم» (ميقاتي) و«حزب الكتائب» ونواب مستقلون.
عقبات التأليف
التكليف هو الأسهل في تشكيل الحكومة، أما التأليف فهو دائماً الأصعب، وهذا ما واجه حكومات سابقة، كانت فترة تأليفها تصل إلى حدود السنة، كما حصل مع حكومة الرئيس تمام سلام، التي أبصرت النور قبل حوالي ثلاثة أشهر، من انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في أيار (مايو) 2013، وسط تخوفات من شغور رئاسة الجمهورية، دون وجود حكومة تحل مكان الرئيس المنتهية ولايته، وهذا ما حصل في عهد أول رئيس بعد الإستقلال بشارة الخوري في العام 1952، ثم في عهد الرئيس أمين الجميّل، وفي نهاية عهد الرئيس سليمان.
ويبدو أن التعقيدات التي سترافق عملية التأليف هذه المرة لن تكون سهلة على الإطلاق حيث يواجه عشية البحث في تشكيل الحكومة الجديدة، عقوبات أميركية جديدة على «حزب الله» طالت عدداً من أعضاء قيادته، وأشخاصاً وشركات تتهمهم الإدارة الأميركية بتمويل ودعم الحزب الذي تصنفه واشنطن منذ أكثر من عقدين أنه تنظيم «إرهابي»، وقد أيدتها دول خليجية في قراراتها الأخيرة الشهر الجاري عبر إعلان «حزب الله» –بشقيه العسكري والسياسي– تنظيماً إرهابياً بعد أن كان يجري الفصل بينهما، ويجري الحديث عن الجانب العسكري فقط، ودعوة «حزب الله» للتحول إلى العمل السياسي فقط.
وهذه الإجراءات الأميركية–الخليجية، الجديدة–القديمة، لم تكن مفاجئة، إنما مربكة نتيجة توقيتها عشية تشكيل حكومة وفوز «حزب الله» وحلفائه بأغلبية مقاعد المجلس، وسط وعيد أميركي–خليجي بسحق الحزب في إطار الصراع مع إيران لتصبح مشاركة «حزب الله» الشماعة التي يمكن استخدامها لتأخير التأليف، رغم إعلان عون والحريري عن عزمهما على الإسراع في تشكيل الحكومة العتيدة.
Leave a Reply