برزت مع محاولة الرئيس سعد الحريري المكلّف تشكيل الحكومة في لبنان، عدة عقد، تتعلق بالأحجام والحقائب، والمشاركة وتوزّعت على الطوائف والمذاهب، المسيحية والسنّيّة والدرزية، ولكل منها أسبابها، وابتعدت الطائفة الشيعية عن هذه العقد، لأن تحالفاً سياسياً يربط بين «حزب الله» وحركة «أمل»، تُرجم في الانتخابات النيابية، بتوزيع المقاعد في الدوائر مناصفة، بأن يكون لكل منهما 13 مقعداً نيابياً، مع ترك المقعد الـ27 وهو عدد النواب الشيعة، للواء جميل السيد، كما اتفقا على المناصفة أيضاً في المقاعد الوزارية، بحصول كل منهما على ثلاث حقائب، لحكومة من 30 وزيراً، بحيث يحصل الشيعة على ستة مقاعد، بالرغم من أن مجموع نوابهم مع الحلفاء في كتلتيهما يعطيهما ثمانية وزراء.
العقدة الدرزية
ومن بين العقد، تبدو العقدة الدرزية أكثرها استعصاءً على الحل، مع تشدد رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، على أن تكون الحصة الدرزية كاملة له في الحكومة، ولن يقدم للنائب طلال إرسلان مقعداً وزارياً، على ما كان يفعله في الانتخابات النيابية، بحيث كان يترك مقعداً شاغراً له لتأمين فوزه، وعندما لم يفعل ذلك في دورة انتخابات عام 2005، خسر إرسلان مقعده، وحلّ مكانه فيصل الصايغ مرشحاً على لائحة الحزب الاشتراكي في عاليه، وهو كان عضو في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي اللبناني الذي يرأسه إرسلان، وعيّنه محافظاً للجنوب من حصته في وظائف الفئة الأولى، وعندما اختل التوازن السياسي في لبنان لصالح قوى «14 آذار»، وانسحاب القوات السورية، أخرج جنبلاط إرسلان من مجلس النواب، ليعيده إليه في دورة انتخابات 2009، بعد أحداث 7 أيار 2008، واتفاق الدوحة، ولعب إرسلان دور الوسيط بين «حزب الله» وجنبلاط بعد أحداث 11 أيار 2008 في الجبل.
من زعامة إلى مؤسسة حزبية
يستمد جنبلاط قوته من نفوذه داخل الطائفة الدرزية التي بات الأقوى فيها منذ عقود، وممثلها الأول في المعادلة اللبنانية، وجعلته رقماً صعباً فيها بوصفه «بيضة القبان»، عندما اختار الوسطية بين 8 و14 آذار.
إن الزعامة الجنبلاطية التي تتوارث عبر الأجيال منذ القرن السابع عشر، منذ نزوح آل جنبلاط، ذوي الأصول الكردية من ناحية حلب إلى لبنان، أثبتت حضورها السياسي والشعبي، تنافسها زعامة ثانية هي اليزبكية، والتي نشأت مع يزبك العماد، أحد زعماء العائلات الإقطاعية والسياسية الدرزية السبع، بعد معركة عين دارة التي وقعت في العام 1711، وظهر صراع قيسي–يمني، تمثّل فيما بعد بـ«يزبكي–جنبلاطي»، حيث لعب آل جنبلاط دوراً في الإمارة الشهابية كان لصالحهم، إلى أن قتل بشير الشهابي الثاني بشير جنبلاط، فيما كان الإرسلانيون القادمون من معرة النعمان قرب إدلب، يدافعون عن الثغور في وجه الحملات الصليبية أو الفرنجة.
ومع وصول الزعامة الجنبلاطية، إلى كمال جنبلاط بعد مقتل والده فؤاد الذي كان قائمقام الشوف على يد شكيب وهاب قرب بلدة غريفة. وكان وليد جنبلاط أحد المشاركين في الثورة السورية الكبرى مع قائدها سلطان باشا الأطرش في جبل حوران، وقد حول الزعامة إلى مؤسسة من خلال «الحزب التقدمي الاشتراكي»، الذي أسسه على مبدأ العلمانية والوطنية اللبنانية والانتماء العربي والاشتراكية الواقعية، مما جعله قطباً سياسياً لبنانياً، شارك في إسقاط الرئيس بشارة الخوري عام 1952، في وقت كانت الزعامة الإرسلانية مع الأمير مجيد، تمارس السياسة التقليدية، حيث تقدم اسم كمال جنبلاط عربياً وعالمياً، بنسج علاقات مع قوى عربية ومنها الرئيس جمال عبدالناصر، وربط علاقاته الدولية مع الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية، التي استفاد منها عبر منح طلابية، ومساعدات صحية واجتماعية، ووضعته على رأس الحركة الوطنية اللبنانية، فاستقطب الشباب الدرزي المثقف، في وقت كان نجم الإرسلانية يأفل، بعد أن أقصت الشهابية التي كان جنبلاط أحد أركانها، الرئيس كميل شمعون وحلفاءها عن السلطة ومنهم مجيد إرسلان.
النفوذ الجنبلاطي
مع نمو ظاهرة كمال جنبلاط، احتل الزعيم الدرزي مرتبة متقدمة لبنانياً، بحيث كان يقيم امتحاناً للمرشحين لرئاسة الجمهورية، وبات يحرك الشارع مستفيداً من الوجود الفلسطيني الذي دعم جنبلاط قضيته بمساندة الكفاح المسلح، بعد تأسيسه «للجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية»، فيما كان الأمير مجيد إرسلان، قد أصبح متقاعداً سياسياً، مع تقدمه بالسن، فبدأ النفوذ الجنبلاطي يتوسع داخل الطائفة الدرزية، ويقضم من العائلات المحسوبة على «اليزبكية»، والتي كانت تشكل نحو 60 بالمئة من الدروز، مقابل 40 بالمئة للعائلات الجنبلاطية.
بدأت المعادلة تتغيّر مع اندلاع «حرب الجبل» في العام 1983، بحيث استفاد وليد جنبلاط الذي ورث الزعامة الجنبلاطية بعد اغتيال والده في 16 آذار 1977، من الفراغ على الساحة الدرزية في ظل تقلص الوجود اليزبكي، وسيطرة القوى الوطنية على مساحة واسعة من لبنان، لتكون حرب الجبل رافعة لوليد جنبلاط الذي استفاد من الدعم السوري له، ومساندة القوى الفلسطينية للدروز في معارك الجبل، لاسيما بحمدون وعاليه وسوق الغرب، وطرد «القوات اللبنانية» منها ومن باقي مناطق الشوف وعاليه والمتن الأعلى، التي أقام «الحزب التقدمي الاشتراكي» فيها «إدارة مدنية» إلى جانب «الشرطة الأمنية» و«جيش التحرر الشعبي»، حيث اتُهم جنبلاط بأنه يؤسس لـ«دولة درزية»، في وقت كانت «القوات اللبنانية» أقامت «كانتونها المسيحي»، بحيث بات وليد، الزعيم الأوحد للطائفة الدرزية، مع تراجع الحضور الإرسلاني السياسي، وقد استفاد جنبلاط من المجازر التي ارتكبتها «القوات اللبنانية» في الجبل وتحديداً في كفرمتى ليوحّد الدروز تحت رايته، بدعم من النظام السوري.
حضور طلال إرسلان
رسّخ جنبلاط زعامته في الجبل، ودخل شريكاً في الحل السياسي للحرب اللبنانية، مع «الاتفاق الثلاثي» الذي رعته سوريا بين حركة «أمل» برئاسة نبيه بري و«القوات اللبنانية» برئاسة إيلي حبيقة و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، قبل أن يحصل انقلاب على الاتفاق بقيادة سمير جعجع، الذي تحالف مع الرئيس أمين الجميّل ضد حبيقة لطرده من المنطقة الشرقية.
حصل اتفاق الطائف الذي تولّت سوريا تنفيذه، ورغبت أن يكون للدروز «اليزبكيين» حضورهم، فاحتضنت طلال إرسلان وتمّ تعيينه نائباً ووزيراً، وأقصي شقيقه فيصل الذي تحالف مع بشير الجميّل سياسياً. وحظي الأمير طلال بدعم سوري عبر صداقته مع باسل الأسد نجل الرئيس حافظ الأسد، الذي قتل في حادث سيارة عام 1994، واستمرت مع شقيقه بشار، إلا أن «الترويكا» الحاكمة في سوريا، كانت إلى جانب جنبلاط، الذي تم تسليمه وزارة المهجرين وتفصيل قانون انتخاب يضمن له وزناً سياسياً كبيراً، في وقت كان إرسلان لا يحصل على حقائب أساسية، ولا يعطى خدمات، مما أضعف موقعه أمام جنبلاط الذي استحوذ على الحصة الدرزية في الوظائف العامة.
ثنائية في الجبل؟
وأمام هذا النفوذ المتنامي لجنبلاط في الطائفة الدرزية، وصولاً إلى فوزه في الانتخابات النيابية الأخيرة بستة مقاعد مع مقعد إضافي في حاصبيا للنائب أنور الخليل المدعوم من جنبلاط والرئيس نبيه برّي، فكان تحالف إرسلان مع «التيار الوطني الحر»، وفوز الأخير بثلاثة مقاعد مارونية في الشوف وعاليه، نكسة لجنبلاط، الذي شعر بعودة «شمعونية» إلى الجبل تقاسمه النفوذ عبر استعادة حلف مع إرسلان، حيث برز أمامه ما حصل عام 1957 عندما أسقط كميل شمعون والده كمال جنبلاط، لصالح قحطان حماده اليزبكي، وقد أعلن أكثر من مسؤول في «التيار الوطني الحر» العودة إلى مقولة «كميل وكمال» في الجبل، بوجود ثنائية فيه، وليس أحادية كما حصل في مرحلة ما بعد الطائف.
ويستند رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مع تياره السياسي على إرسلان لإقامة هذه الثنائية السياسية، التي أعادت الصراع اليزبكي – الجنبلاطي، والذي مورس في حادثة الشويفات وأدّت إلى مقتل الاشتراكي علاء أبي فراج وفي المواقف النارية لارسلان والغير مسبوقة وهدد بكشف الجراائم التي ارتكبها اوباش جنبلاط بقرار وامر منه وطالت مئات العائلات الدرزية مما رفع من حدة التصعيد وربما الفتنة التي عمل مشايخ الطائفة على محاصرتها ، فوضع رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» «فيتو» على توزير إرسلان الذي فاز وحيداً في الانتخابات وعن مقعد شاغر تركه له جنبلاط، لكن الأخير يؤكد أن النسبية تعطيه حق الفوز، وأن هناك مَن لعب على ساحة إرسلان، ويحاول إضعافه لوراثته سياسياً، بعد أن فشل في الحفاظ على ما يسمى الحالة «اليزبكية»، التي إنهارت أو شلّت أمام الجنبلاطية المستأثرة بالمقاعد النيابية والوزارية والوظائف والتمثيل السياسي والحضور الشعبي.
وما يقلق جنبلاط، هو محاولة إعادة إمساك خصومه اليزبكيين وغيرهم بالطائفة، بدعم من عهد ميشال عون.
Leave a Reply