تأسيساً، لا تكفي موهبة الفنان ونجوميته وتحطيمه لأرقام المبيعات للحفاظ على مكانته في رأس القائمة وفي قلوب جمهوره ومحبيه. فلكي يكون الفنان، أو أي شخص آخر، علامة فارقة لا يمكن إزالتها أو تجاهلها، لا بد له أن يعكس روح العصر الذي يعيش فيه، وطبيعة الثقافة التي يتحرك في أروقتها ودهاليزها. هكذا فقط يمكن أن نفهم كيف يتحول فنان إلى قامة، أو أسطورة، كما حصل مع مايكل جاكسون ومادونا وعبدالحليم حافظ.. و”ليدي غاغا”.
ليس صدفة أن تنضم الـ”ليدي غاغا” إلى قائمة الفنانين الأسطوريين. فهي بهذه النجومية، أكثر من مغنية، لأنها تعكس روح الزمن الأميركي في هذه الفترة من التاريخ، وليس صدفة أن يزداد الهمس حول جنسها البيولوجي (فيما إذا كانت أنثى أم ذكر). وبذلك يغدو لهذا التساؤل والشك معناه، في زمن صار فيه التحول الجنسي والتنقل وتغيير الجنس من أنثى إلى ذكر وبالعكس، أمراً لا يثير حفيظة الكثيرين، خاصة لدى شرائح شبابية واسعة.
الليدي غاغا.. نجمة البوب الأميركية، محطمة الأرقام القياسية لترشيحات الفوز بأفضل أغنية مصورة في الولايات المتحدة، ظهرت أمام جمهورها الأسبوع الماضي مرتدية فستاناً من لحم البقر، وهي تستلم جائزة عن أغنيتها (باد رومانس) لهذه السنة. فستاناً من اللحم (الطازج إذا شئتم) وليس من الحرير أو الدمقس ولا مرصع بالجواهر أو الخيطان المذهبة ولا مشكوك بالألماس. فستان.. بقصد أن يحل “اللحم” بدل اللحم. بقصد الإثارة وإيقاظ الغرائز والشهوات من سباتها “الحضاري” وإطلاق سعارها المدوي في الهواء الطلق، أو تحت أضواء البلاتوهات.
إذن لم يعد التعري (حتى حدود مبالغ بها) وسيلة المرأة في الإغراء والجذب كما هو الحال في الإعلانات التلفزيونية، حيث كانت الفتيات مجرد “أدوات” لجذب الجمهور والمستهلكين. في حالة “ليدي غاغا” أصبحت المرأة هي السلعة ذاتها، وليست “السبب” الذي يقنع المتفرج بالسلعة.
المرأة/ الأيقونة/ السلعة. و”ليدي غاغا” هي “سلعة”، لكنها ليست كتلك النساء اللواتي يُعرضن في فاترينات المواخير وأقبية البغاء وعلب الليل، حيث يرقصن عاريات بقصد التقاط الباحثين عن المتعة العابرة.
البغايا.. اللواتي طحنتهم الحياة (وفرمتهم ماكينة اللحمة)، لا يشبهن بأي حال، الفاتنات اللواتي يقدمن لحومهن هن الأخريات، طمعا بالأضواء والشهرة والمجد والسلطة. لحم المرأة في هذه الحالة.. طبق خاص!
و”ليدي غاغا” بارتدائها فستاناً من لحم البقر.. تبدو بمثابة من تعلن وتدعو الجميع إلى أكلها.. بكل معنى الكلمة. يعني، تدعوهم إلى اشتهائها ومضغها والتمتع بطمعها. وأكل لحوم البشر ليس من عادات القبائل البدائية والمتخلفة، بل هو أيضا من عادات المجتمعات الراقية والمتمدنة والثرية كذلك. ليس مصادفة أن توصف الأنظمة الرأسمالية بـ”المتوحشة”.
لكن أكل لحوم البشر، والنساء على الأخص، قد يرتبط بالكبت أيضا. مرة، كتب محمد الماغوط على لسان إحدى شخصياته المكبوتة في مسرحية “العصفور الأحدب”: سآكل النساء بالملعقة والسكين. ويمكن أن يكون أكل النساء ذا علاقة بالفقر والفاقة، فقد كتب الشاعر السوداني مجاهد آدم: “ما أروع هذا المحتاج/ ما أحلى قبلته/ حين تخالطها/ أعباء اللقمة كل مساء”.
و”أكل لحم” النساء، لا يقتصر بالضرورة على المجتمعات الفاجرة والمتحللة، فـ”جماعتنا” بكل تدينهم وبكل تعلقهم بالقيم والمبادئ لا يوفرون لحم امرأة.. وليس شرطاً أن يكون اللحم “حلال” هذه المرة. وبالنسبة لـ”الملتزمين” و”المتعصبين” الذين يخافون الله.. يمكن حل المسألة على عجل بتزكية اللحم، من خلال إبرام عقود نكاح على عجل، تدوم طوال الليل، وتذوبها شمس الصباح.
وهكذا يمكن تقسيم البشر إلى أصناف، فمنهم “النباتيون” ومنهم “اللاحمون”.. ونحن نزيد في الطنبور نغماً كوننا نعشق اللحم، ونغرم بـ”الكبة النية”!
تقول الآية القرآنية “أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه”. ويجيب الجميع بخشوع وخوف من انتقام الله: لا.. لا نحب أن نأكل لحم إخوتنا ميتين..
ولكننا في الواقع لا نتورع عن أكل لحمهم أحياء. تعالوا.. من قبيل التمرين نأكل “ليدي غاغا”!
Leave a Reply