انصاعت بلدية ستيرلنغ هايتس الشهر الماضي لتسوية قضائية، بالسماح ببناء مسجد في المدينة بعد معركة طويلة استدعت تدخل وزارة العدل الأميركية وسط احتجاجات عنصرية رافضة للمشروع على خلفية العداء للإسلام.
قال القضاء كلمته إذن، في بلد تقوم ديمقراطيته على أساس متين من فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن التسوية القضائية، وبدلاً من أن تنزع فتيل التوترات الطائفية لدى بعض أبناء الجالية الكلدانية في مدينة ستيرلنغ هايتس، فقد زادت في غليان المشاعر المعادية للإسلام والمسلمين، بطريقة تبدو عصية على الفهم، بدءاً من قاعة بلدية المدينة التي شهدت صخب الغاضبين من قرار البلدية وتعالي الاتهامات للمسلمين بالإرهاب، وصولاً إلى حفلات التوتير الطائفي على مواقع التواصل الاجتماعي التي حفلت بمنشورات وتعليقات متصفحين شجبوا قرار البلدية وتوعّدوا مسؤوليها بالثأر في الانتخابات البلدية القادمة.
صحيح أن بناء المسجد لقي معارضة شرسة في مجتمع مدينة ستيرلنغ هايتس الذي يضم شرائح واسعة من المسيحيين المنحدرين من بلدان عربية، ولكن بعض الكلدانيين أصروا على تشكيل رأس الحربة في تلك المعركة محاولين تبرير مواقفهم العنصرية بالاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون في العراق.
ولكن في واقع الأمر، إن أغلب المتنطحين لاتهام الإسلام بالإرهاب هم من قدامى المهاجرين الكلدان الذين جاؤوا إلى الولايات المتحدة قبل عقود من ظهور تنظيم «داعش» وأشباهه من التنظيمات المتطرفة التي ترفع شعارات إسلامية، وهي بعيدة كل البعد عن تعاليم الدين الحنيف، كما أن قائمة ضحايا جرائم ووحشية هذا التنظيم الإرهابي لم تقتصر على الكلدان والمسيحيين بل تتعداهم لتطال كافة الطوائف، من أيزيديين وكرد وصولاً إلى الشيعة والسنة.
مثل هذه الحقيقة لا يريد بعض الكلدان الاعتراف بها، بل يصرون بمزيد من التعنت والصلافة على معاقبة المسلمين الأميركيين بذنب التنظيمات الإسلامية المتطرفة، متجاهلين حقيقة أنهم عاشوا في تلك البلدان نفسها قروناً طويلة بدون أن يتعدى أحد على حقوقهم الإنسانية أو الدينية.
هؤلاء المصطادون في الماء العكر، يريدون أن تكون الولايات المتحدة ساحة لتصفية الحسابات، متوهمين أنهم –ولمجرد كونهم مسيحيين– باتوا جزءاً أصيلاً من الأمة الأميركية، وأن الآخرين –وخاصة العرب المسلمين– هم أجسام غريبة ودخيلة، وغير جديرين بالتمتع بمزايا المواطنة الأميركية مثلهم. ومن هنا يمكننا أن نفهم كيفية تركيز المحتجين على قرار البلدية بالتسوية القضائية على القول بأن شعار المسلمين هو «الموت لأميركا».
إذن، لم ينجح قرار التسوية القضائية بتهدئة خواطر المتعصبين الذين ثارت ثائرتهم وعلت عقيرتهم بالتوعد ومتابعة «النضال» لمنع بناء المسجد، مصرين على أن «لا يتركوا للصلح مطرحاً» كما يقول المثل الشعبي.
يبدو أنه –وبكل أسف– أن تلك الحفنة الموتورة من معارضي بناء المركز الإسلامي لم تتعلم ولم تستفد من تاريخ إقامتها الطويل في الولايات المتحدة. ولم يستخلصوا الدروس ولا العبر التي تفيد بأن من المستحيل حسم معركة الحقوق الأساسية خارج الدستور الأميركي. فمنذ أسابيع فقط، كان رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب نفسه –الذي ناصره بعض الكلدان لمجرد تصريحاته المعادية للمسلمين– قد خسر أمام القضاء الذي عطّل قراره التنفيذي بمنع مواطني سبع دول ذات أغلبية إسلامية من دخول الولايات المتحدة.
وهنا في مدينة ديربورن ذات الكثافة العربية والإسلامية، تنتشر المساجد الإسلامية جنباً إلى جنب الكنائس المسيحية التي تحيط ثلاث منها بـ«المركز الإسلامي في أميركا»، بدون أن نشهد –ولو لمرة واحدة– توتراً أو حساسية بين المسلمين والمسيحيين في المدينة.
إننا نفهم وندرك أن الولايات المتحدة هي «أمة الأمم»، بمعنى أنه من حق الجماعات والجاليات أن تحافظ على جميع عناصر ثقافتها الخاصة التي جلبتها معها من البلدان الأم، بشرط أن تنسجم وتتواءم مع دستور الولايات المتحدة وقوانينها، لا أن تتعارض معها وتتحداها.
حري بجميع المهاجرين الفخورين بأصولهم وتاريخهم ومعتقدهم أن يدركوا هذه الحقيقة، من دون أن يقيموا جدران العزل العنصرية والإثنية بينهم وبين الجماعات الأخرى، وحري بجميع المهاجرين أن يدركوا أن من حقهم أن يجلبوا معهم كل شيء من أوطانهم الأم، ما عدا الكراهية والثارات والأحقاد، وإذا فشلوا في ذلك فينبغي عليهم في أضيق الأحوال ألا يذهبوا بعيداً في التعبير عن رغبتهم بالثأر.. أضعف الإيمان في هذه الحالة، أن يحافظوا على شعرة معاوية!
Leave a Reply