بدا اختيار التسمية الإعلامية للقاء الأول بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين على هامش اجتماعات «مجموعة العشرين» موفقاً: «قمة الخرائط الممزقة».
اللقاء المنتظر، الذي تأخر كثيراً، بدا استثنائياً في شكله، فالرئيسان لم يلتزما بالوقت الرسمي المحدد للاجتماع، وهو نصف ساعة، فاستغرق النقاش بينهما قرابة ثلاث ساعات، تطرّق إلى موضوعات حساسة، بحسب التسريبات الإعلامية، من سوريا والعراق، وصولاً إلى أوكرانيا وشرق أوروبا… وبطبيعة الحال العلاقات المتوترة على خط موسكو–واشنطن، لا سيما في ظل تصاعد الضغوط الداخلية على ترامب، على خلفية اتصالات «مشبوهة» مع المسؤولين الروس خلال حملته الانتخابية.
ولا شك أن الاجتماع قد شهد تفاهمات وتباينات في آن واحد، سرعان ما انعكست على مجمل الأوضاع الميدانية في مناطق التوتر، الملتهبة منها، والساخنة.
ولعل هذه التفاهمات، ومعها التباينات، تبدو طبيعية، في ظل انتقال موازين القوى بين الولايات المتحدة وروسيا في الشرق الأوسط، إلى الكفة الروسية من جهة، وبسبب الضغوط المستمرة التي ما زال ترامب يواجهها في الداخل الأميركي، من قبل المنظومة السياسية المسيطرة هناك، والتي ما تزال تنطلق من مقاربتها للعلاقات مع روسيا من المصطلحات البالية للحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي.
ففي سوريا، أفضى اللقاء بين الرئيسين إلى تفاهمات على تهدئة الأوضاع في الجنوب السوري، في اتفاق انتقدته بعض الأوساط الأميركية، المعارضة لترامب، قائلة إنه يضع مصالح الولايات المتحدة –ومن خلفها إسرائيل– في سوريا، رهينة للقرار الروسي.
ويؤشر الاتفاق الأميركي–الروسي حول التهدئة في الجنوب السوري إلى تحوّل سياسي، نقل الولايات المتحدة من مجرّد الداعم العسكري للجماعات المسلحة الحليفة لها في سوريا، والرعاية السياسية للمحادثات المتعثرة في جنيف، إلى خيار آخر، يتمثل في إمكانية العمل مع روسيا لإنهاء هذه الحرب.
وكانت ملفتة في هذا الإطار تصريحات وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، الذي قال إن «الولايات المتحدة مستعدة لدراسة إمكان العمل مع روسيا على وضع آليات مشتركة تضمن الاستقرار بما في ذلك مناطق حظر جوي ومراقبين ميدانيين لوقف إطلاق النار وتنسيق إيصال المساعدات الانسانية»، مضيفاً أنه «إذا عمل بلدانا سوياً على إرساء الاستقرار على الأرض فان هذا الأمر سيرسي دعائم للتقدم نحو اتفاق حول المستقبل السياسي لسوريا».
ولكن ثمة من ينظر في الولايات المتحدة إلى هذه المقاربة بحذر، وخيبة. وبالرغم من أن فريق ترامب يحاول تبرير التفاهم مع روسيا بشأن الجنوب السوري، على أنه انتصار سياسي، وميداني، خصوصاً أن الاتفاق يراعي المطالب الإسرائيلية والأردنية الرافضة لتواجد المجموعات القريبة من إيران، بما في ذلك «حزب الله»، قرب الجولان المحتل، والحدود الأردنية، إلا أن مجلة «فورين بوليسي» فجرت قنبلة مدويّة، حين أشارت إلى أن ترامب وتيلرسون لم يستشِرا الجيش الأميركي في هذه التفاهمات، حتى أن مسؤولي البنتاغون لم يشاركوا في التخطيط أو الاطلاع على التفاهمات.
ونقلت «فورين بوليسي» عن مسؤول عسكري افتراضه أنّ الجنود الروس سيتولون دور الوساطة بين الجنود الأميركيين من جهة والإيرانيين والسوريين من جهة ثانية، ناقلة عن الخبير الأميركي في الشؤون السورية، جوشوا لاندس قوله: «هذه رشوة لروسيا. الأميركيون عاجزون عن مراقبة الوضع».
يشير الغموض الذي يلف تفاصيل الاتفاق الأميركي ــالروسي في الجنوب السوري، إلى أن فترة انتظار وضع تفاصيله ستُبقي التوتر والحذر على جبهات تلك المنطقة. وإلى حين إقرار تلك التفاصيل، ستبقى النقاط الحساسة التي يتضمنها، «ألغاماً» من شأنها التأثير بمستقبله واحتمالات نجاحه.
المأزق الميداني
وعلى جانب آخر، يتزايد المأزق الأميركي في سوريا، في ظل المتغيرات الميدانية الكبرى، بعد استعادة الجيش السوري مساحات واسعة جداً من سيطرة الجماعات المسلحة، لا سيما في المنطقة الحدودية، بما يجعل هامش المناورة يضيق امام الولايات المتحدة.
وأظهر آخر مسح ميداني أن المساحة التي سيطر عليها الجيش السوري وحلفاؤه خلال الأيام الستين الماضية، توازي المساحة التي جرت استعادتها طوال ستة أعوام.
ويبدو ذلك نتيجة للاتفاق الذي جرى في أستانا على انشاء مناطق خفض التصعيد في سوريا، وضمت أربع مناطق، هي: محافظة إدلب وبعض أجزاء الجوار، وأجزاء محددة من شمال محافظة حمص، الغوطة الشرقية، وبعض مناطق جنوب سوريا.
وانطلاقاً من ذلك، فإن خريطة السيطرة للجيش السوري، باتت مرتكزة على خطين متوازيين في البادية السورية، الأول يتمثل في توسيع السيطرة على أطراف مدينة تدمر، بما يشمل المنطقة النفطية، ليقترب بذلك من السيطرة على مدينة السخنة الاستراتيجية التي تعتبر بوابة الدخول إلى دير الزور.
أما الخط الثاني، فهو تأمين الطريق الواصل بين دمشق وبين الحدود السورية العراقية، ووصولا إلى معبر التنف الحدودي، ما يعني، من الناحية العسكرية، إبطال أي مفعول للقوات المدعومة أميركياً، لأنها باتت مطوقة من كل جانب.
النفوذ الروسي
وفي الجانب السياسي، يتزايد النفوذ الروسي على عملية التسوية، في ظل نجاح مسار أستانا في تثبيت وقف اطلاق النار، أو مناطق خفض النزاع، في مقابل فشل مسار جنيف، الذي تعثرت آخر جولاته، الأسبوع الماضي، في ظل تشتت فصائل المعارضة السورية، وفشل كافة المحاولات الإقليمية والدولية لتوحيد منصّاتها.
ويبدو الفشل في جنيف انعكاساً للأزمة الخليجية التي بدأت تلقي بظلالها على الملف السوري من زاويتين: الأولى عسكرية، وتتمثل في تراجع الدعم الخليجي للمعارضة المسلحة، بما في ذلك الجماعات التكفيرية لاعتبارات عدّة، أبرزها تركيز الجانبين القطري والسعودي على خلافاتهما المباشرة من جهة، وسعي كليهما للتبرؤ من تهمة دعم الإرهاب، في ظل الحملات المتبادلة، التي يسعى الطرفان خلالها، إلى فتح الصناديق السود. وأما الزاوية الثانية، فسياسية، وتتمثل في تزايد حجم التناقضات السياسية بين «منصة الرياض» و«منصة اسطنبول»، بعد انخراط تركيا مباشرة في الصراع الخليجي، ما يعني أن فكرة توحيد المعارضة السورية لن تكون ممكنة ما لم تُحل الأزمة الخليجية، التي تقترب تسويتها من الاستحالة في الوقت الراهن.
معركة الحدود المفتوحة
وأما في العراق، فإنّ استعادة مدينة الموصل، من قبضة تنظيم «داعش»، وبرغم محاولات البعض الترويج لها على أنها انتصار أميركي، أكسبت محور المقاومة، الذي تقوده إيران –حليفة روسيا في الشرق الأوسط– زخماً جديداً، في ظل الدور المحوري الذي قام به «الحشد الشعبي» في طرد التكفيريين من العاصمة الثانية للخلافة.
وبالرغم من أن سقوط الموصل، التي أعلنها «داعش» عاصمة لـ«الخلافة» المزعومة، لا يعني حكماً انهيار التنظيم التكفيري سريعاً، إلا أنه يفتح الباب أمام القوات العراقية، والحشد الشعبي، إلى نقل الجبهة المفتوحة ضد «الدواعش» غرباً، باتجاه المناطق الحدودية مع سوريا، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى ربط الجبهتين السورية والعراقية، وهو ما سيشكل ضغطاً إضافية على المعسكر الأميركي، خصوصاً إذا ما تحوّل المثلث السوري–الإيراني–الروسي في سوريا، إلى مربّع سوري–إيراني–روسي–عراقي عابر للحدود.
هذا الأمر، من شأنه رسم الكثير من الحقائق والتموضعات الجديدة في الجبهتين العراقية والسورية، وسيجعل أي انتصار عسكري يحققه حلفاء الولايات المتحدة في سوريا أو العراق، مكسباً للمحور الآخر، سواء في الرقة، حيث تواصل الوحدات الكردية المدعومة أميركياً حملة «غضب الفرات» لتحرير «العاصمة الثانية» لـ«داعش»، أو في الشمال السوري، الذي سيغدو، عاجلاً ام آجلاً، نقطة التمركز الأساسية للمجموعات المسلحة، في ظل المصالحات والتسويات الجارية في الميدان السوري، من دمشق والقلمون الغربي، وصولاً إلى حمص وحماه وحلب.
Leave a Reply