بات واضحاً أن اتفاق معراب بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» سقط عملياً تحت وطأة الخلاف على كيفية توزع الحصة المسيحية في السلطة، ولم يبق منه سوى «فتات» لا يسمن ولا يغني من جوع. بهذا المعنى، بدا أن جوهر الاتفاق كان في أساسه مصلحياً أكثر منه مبدئياً، وبالتالي ما إن افترقت المصالح حتى تهاوى التفاهم.
ويمكن القول أن تفاهم معراب ارتكز في «بطانته» على مشروع محاصصة بين «التيار» و«القوات»، كان يفترض أن تمتد مفاعيله من مجلس النواب إلى الحكومة والادارة، على قاعدة تقاسم المقاعد النيابية والوزارية والتعيينات في الدولة وكل ما يتصل بمغانم السلطة. لكن النقص الحاد في الكالسيوم السياسي أدى إلى إصابة التفاهم لاحقاً بترقق عظم، سرعان ما تفاقمت عوارضه واستفحلت تداعياته على العلاقة الهشة.
لم تصمد «صفقة معراب» أمام التحديات التي واجهتها، لأنها افتقرت إلى المناعة الضرورية المستمدة من مضمون سياسي صلب، في ظل افتراق الطرفين حول الخيارات الاستراتيجية المتصلة بسياسات الدولة وبالتحالفات الداخلية والإقليمية.
لم يكن طبيعياً من حيث المبدأ أن يعجز الجانبان عن إنتاج لوائح مشتركة في الانتخابات النيابية الأخيرة، على سبيل المثال، بينما كان يُفترض أن يشكل هذا الاستحقاق مناسبة لترجمة المصالحة بينهما إلى تحالفات انتخابية.
ما حصل هو العكس تماماً، إذ واجه كل منهما الآخر في الساحات المشتركة، فيما كان سهلاً عليهما في المقابل نسج تحالفات بديلة حتى مع خصوم لهما، وذلك سعياً إلى انتزاع أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية، ولو على حساب المصداقية السياسية والمصالحة المسيحية، علماً أنهما واجها صعوبة كبرى في تبرير هذا السلوك المتضارب لجمهورهما.
تشكيل الحكومة
ثم أتى ملف تشكيل الحكومة الجديدة ليستكمل شد الخناق على اتفاق معراب، بعدما اتخذ الصراع على الحصة الوزارية بين «التيار» و«القوات» طابعاً حاداً على المستويين السياسي والإعلامي، وسط حملات متبادلة استخدمت فيها اسلحة ثقيلة، الامر الذي انعكس تجددا للتشنج والتوتر في صفوف قواعدهما.
يبدو أن وظيفة تفاهم معراب قد انتهت بعدما تحققت الغاية منه. بالنسبة إلى «التيار»، ساهمت المصالحة مع سمير جعجع في وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، خصوصا أن تأييد جعجع لانتخابه افضى إلى تأمين تغطية مسيحية واسعة لهذا الخيار، ما أحرج الآخرين في الساحات الأخرى واضطرهم إلى القبول بتجرع ما يعتبرون انها كأس برتقالية مرّة.
وبالنسبة إلى «القوات»، أفادت مصالحة معراب في تلميع صورة جعجع ونفض غبار الماضي الدموي عنها، الأمر الذي سمح له بان يصبح مقبولاً لدى اوساط مسيحية كانت على خصومة أو عداء معه، وهو تمكن من استثمار هذا التحول في المزاج المسيحي خلال الانتخابات النيابية التي انتهت بازدياد عدد أعضاء كتلته النيابية من 8 نواب إلى 15 نائباً.
التفاهم أصبح عبئاً
بعدما أخذ الجانبان من «التفاهم» ما يريدانه، سقطت الحاجة إليه، بل لعله أصبح عبئا يحاولان التخلص منه، إنما مع سعي كل منهما إلى إلقاء المسؤولية المباشرة عن انهياره على الطرف الآخر. «التيار» يتهم «القوات» بأنها انقلبت على التزاماتها من خلال تراجعها عن دعم عهد الرئيس ميشال عون وفق ما يلحظه اتفاق معراب تبعاً للتفسير البرتقالي له. ويؤكد مصدر بارز في التيار لـ«صدى الوطن» أن وزراء جعجع في الحكومة المستقيلة أمعنوا في تعطيل مشاريع العهد وعرقلتها عبر التصويب المنهجي عليها، إضافة إلى شن الحملات المنظمة على الوزير جبران باسيل ومحاولة التفريق بينه من جهة وبين عون والتيار من جهة أخرى.
وانطلاقاً من هذه التجربة المريرة، يعتبر المصدر أن «التيار» يرفض منح «القوات» حصة منتفخة في الحكومة الجديدة، «ستستخدمها في معركتها ضدنا وضد الرئيس عون»، مشيراً إلى أنه جرى التساهل في المرة السابقة مع مطالبها، تحت سقف المصالحة وعلى قاعدة تأييد العهد، فوافقنا على نيلها 3 حقائب وزارية ومنصب نائب رئيس الحكومة، إلى جانب وزير حليف محسوب عليها هو ميشال فرعون، ولكن بعد التحول السلبي في مواقفها لا نجد أي مبرر لمنحها في الحكومة المقبلة حجماً يفوق وزنها الطبيعي على حسابنا، ومن كان متحمساً لجعجع ما عليه سوى أن يعطيه وزارات من جيبه.
حصة منتفخة
ويشير المصدر إلى أن من حق «القوات» الحصول على 3 وزراء حصراً، من دون أن تشتمل حصتها على منصب نائب رئيس الحكومة الذي يعود لرئيس الجمهورية أن يختار من يشغله وفق العرف المتبع، وإذا كان عون قد تنازل عن حقه لـ«القوات» في المرة السابقة فانه هذه المرة يصر عليه، بعد الجحود السياسي الذي قوبلت به مبادرته.
وتنفي «القوات» في المقابل اتهام «التيار» لها بالانقلاب على العهد، معتبرة أن سلوكها الرافض لكل مظاهر الفساد يصب في خانة دعم الرئيس عون وطموحه الإصلاحي وليس العكس. وتشير أوساط «القوات» إلى أن وزراءها كانوا يتدخلون لتصويب مسار بعض الملفات التي كانت تنطوي على شبهات معينة وكان يراد لها أن تتجاوز أجهزة الرقابة، كملف بواخر الكهرباء الذي عارض حتى «حزب الله» طريقة إدارته، مشيرة إلى أن هذا النمط من التعاطي لا يرمي إلى استهداف العهد أو عرقلته، بل يسهم في تحصينه وحمايته.
وترى أوساط معراب أن «القوات» يجب أن تتمثل في الحكومة، بناء على ما أفرزته نتائج الانتخابات التي أعطتها انتصاراً نوعياً تمثل في مضاعفة عدد نوابها، وبالتالي فان السقف المقبول لديها، وفق مقاربتها للأحجام المفترضة، يتراوح بين 4 و5 وزراء، على أن تتوزع حقائبهم بين سيادية وأساسية وعادية.
وتوضح الأوساط أن جعجع يتمسك بالحصول إما على حقيبة سيادية وإما على مركز نائب رئيس الحكومة الذي يعادل برأيه الوزارة السيادية.
Leave a Reply