نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«نحن ندافع عن لبنان وأمنه ومستقبله ومصيره… ولا يمكن تحييد لبنان عمّا يجري في محيطه». العبارة الحاسمة التي قالها الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في ذكرى أربعين القائد الشهيد مصطفى بدرالدين، لم تنتظر الكثير من الوقت لكي تأتي الأحداث وتؤكد صوابيتها، بعدما اخترق الإرهاب مجدداً الحدود الشرقية للبنان، وسدد ضربته المزدوجة في بلدة القاع.
كثيرة هي التفسيرات التي اطلقها هذا الفريق أو ذاك بشأن هجمات بلدة القاع. البعض استغلها، وكعادته في أحداث كهذه، للتصويب على خيار «حزب الله» التدخل في الصراع السوري، والبعض الآخر رأى فيها تأكيداً على صوابية خيار المقاومة، في ظل التهديدات المحدقة بالحدود الشرقية للبنان.
في ازدحام الجدل المتجدد، ضرب الإرهاب التكفيري مجدداً، ولكن هذه المرّة في اسطنبول، حيث شن ثلاثة انغماسيين هجمات انتحارية على مطار أتاتورك الدولي، في عملية تشبه إلى حد كبير هجمات القاع الانتحارية، وإن كانت خسائرها في المدينة التركية أكبر بكثير منها في البلدة اللبنانية. ولكن ثمة قواسم مشتركة بين هجمات القاع وبين هجمات مطار اسطنبول يمكن البناء عليها لتحديد طبيعة الأخطار المحدقة بهذا البلد أو ذاك، في سياق المواجهة الطويلة، والقاسية، ضد التنظيمات التكفيرية، سواء تعلّق الأمر بتنظيم «داعش» أو بأخواته، من «القاعدة» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام»… إلى آخر تلك المسمّيات.
ولا يمكن فهم سلوك الجماعات التكفيرية ومواجهة مخططاتها إلا من خلال التعامل معها بالطريقة ذاتها التي يتعامل بها الأطباء، سواء الجراحون أو المختصون بالعلاج الإشعاعي، مع الورم السرطاني، الذي في حال لم يستأصل بالكامل، يبقى خطره قائماً، مهما بلغ حجم العلاجات الموضعية، فيختار النقاط الأضعف في الجسم ليهاجم مجدداً.
ولعل تجربة السنوات الخمس الماضية من عمر الأزمة السورية، وقبلها التجربة العراقية وغيرها، تظهر أن التنظيمات التكفيرية، حين تحاصر في مكان ما، تسعى إلى البحث عن ثغرات تنفذ منها عمليات ارهابية، في إطار سلوكياتها العسكرية غير التقليدية، حتى وإن اضطرت للتضحية بالعشرات من إرهابييها.
أبرز التجارب القريبة في هذا الإطار، يمكن استخلاصها من مصر، التي تخوض قواتها المسلحة أشد المعارك ضد تنظيم «ولاية سيناء» التابع لـ«الدولة الإسلامية» المزعومة. وكان واضحاً، منذ بدء عملية مكافحة الإرهاب في شبه الجزيرة المصرية، أن الفرع المصري لـ«داعش» غالباً ما كان يلجأ إلى عمليات انتحارية، في كل مرة كانت قوات الجيش المصري والأمن المركزي تحاصره في هذه البؤرة أو تلك، حتى أن تلك العمليات الانتحارية، التي كانت تستغل بدورها، كل نقاط الضعف في شمال سيناء، قد بلغت مستوى خطيراً، وحتى هستيرياً، مع كل تقدّم كانت تحرزه القوات المسلحة المصرية في الميدان.
هذا الأمر ينطبق بشكل يلامس الاستنساخ على السلوك «الداعشي» الذي هز لبنان مطلع الأسبوع الماضي، وبعده تركيا.
وانطلاقاً من مقولة السيد نصرالله بأنه «لا يمكن تحييد لبنان عن محيطه»، وهي مقولة ترقى إلى درجة البديهيات السياسية والعسكرية، التي ترفض بعض القوى اللبنانية التعامل معها بواقعية، فإن أي تحليل لأهداف العمليات الارهابية في بلدة القاع يبقى قاصراً ما لم يتم ربطه بمجموعة من التطورات التي شهدتها المعركة ضد الجماعات التكفيرية، وعلى رأسها «داعش»، في كل من سوريا والعراق.
الجبهة السورية
في الميدان السوري، كان واضحاً، خلال الأيام القليلة الماضية، أن ثمة خناقاً بدأ يُفرض على «داعش» في الجبهة الشمالية، سواء في ريف الرقة الشمالي، حيث تواصل «قوات سوريا الديموقراطية» تقدّمها البطيء، للولوج إلى اطراف العاصمة الثانية لـ«دولة الخلافة»، أو في الريف الجنوبي، إذ يقف الجيش السوري، وحلفاؤه، على مسافة بضعة كيلومترات من معاقل «داعش» المحصنة. هذا الأمر، ينطبق أيضاً على الريف الحلبي، في ظل التقدّم الكبير الذي حققته «قوات سوريا الديمقراطية» في الريف الشمالي، وتحديداً في منبج، وما يعنيه ذلك من ضغط، يصل الى درجة إطباق الحصار على خطوط إمداد التكفيريين، وفي ظل القرار الحاسم من الجيش السوري و«حزب الله» بالدفاع عن مدينة حلب، و«نفاذ صبر» الروس، الذي دفعهم إلى استئناف غاراتهم الجوية في الجبهة الحلبية، بعد ساعات قليلة على خطاب السيد نصرالله، الذي تضمن عتباً واضحاً على انجرار الحليف الروسي إلى خديعة الهدنة.
واشتعل الميدان السوري الأسبوع الماضي على أكثر من جبهة، حيث سيطرت وحدات الجيش على أغلب مزارع الملاح في ريف حلب الشمالي، في إطار عملية تطويق المدينة عبر الوصول إلى دوار الكاستيلو، في وقتٍ تمكّنت فيه من صدّ هجوم واسع للمسلحين في شمال شرق اللاذقية بمسمى «عاصفة رجال الساحل». كما كبد الجيش السوري وسلاح الجو فصائل «جيش الفتح» خسائر فادحة عقب نجاحه بصد هجوم واسع لاستعادة مزارع الملاح من قبضة الجيش وحلفائه.
وفي أقصى جنوب شرقي سوريا، تلقت استراتيجية واشنطن في التدخل بالميدان السوري صفعة كبيرة، بفشل هجوم «جيش سوريا الجديد» الذي أنشىء في الأردن، حيث تعرضت القوة المهاجمة لخسائر فادحة بعد إنزال نفذته قرب مطار الحمدان الذي يسيطر عليه تنظيم «داعش» في البادية السورية. وتحت حماية جوية أميركية، تقدمت القوة الى مطار الحمدان الترابي، على أطراف مدينة البوكمال الحدودية مع العراق. غير أنها تعرضت لهجوم معاكس من قوات «داعش» قضى على أعداد كبيرة من القوة المهاجمة التي قدرت بـ٢٠٠ مقاتل.
خسارة الفلوجة
وفي الميدان العراقي، فإن الأيام القليلة الماضية سجلت ضربة قوية لـ«داعش»، بعدما استعادت القوات العراقية كامل السيطرة على مدينة الفلوجة، عقب تطهير حي الجولان، المعقل الأخير للتكفيريين في المدينة التي سيطر عليها تنظيم أبي بكر البغدادي ي مطلع العام 2014.
وتمثل خسارة «داعش» لمعقلهم الفلوجة، التي خاضت فيها قوات الاحتلال الأميركي معركة شرسة في العام 2004 تكبّدت فيها أسوأ خسائر منذ حرب فيتنام، ضربة قوية للتنظيم التكفيري، الذي خسر عدداً كبيراً من قياداته جراء ضربات جوية، كما فقد السيطرة على أكثر من ثلثي المناطق التي كانت خاضعة له في العراق قبل عامين.
أمام هذا الواقع، لم تجد الجماعات التكفيرية، أي «داعش» وأخواتها، سوى البحث عن ثغرات يمكن من خلالها تشتيت جهود مكافحة الإرهاب من جهة، وإعطاء دفع معنوي لعناصرها من جهة ثانية، والدخول في اندفاعة ميدانية، أدنى سقف لأهدافها هو تخفيف الضغط عن قواها في الميدانين السوري والعراقي، وأعلاه تحقيق انتصار استراتيجي يتمثل في لبنان، على وجه الخصوص، بتأمين تواصل بين البادية السورية، عبر جرود القلمون التي تعد بلدة القاع إحدى امتداداتها، وبين بعض البؤر التكفيرية التي يجري الحديث عنها في شمال لبنان. وبالرغم من الإجراءات الأمنية المشدّدة التي يتخذها الجيش اللبناني في المناطق الحدودية، إلا أن بلدة القاع ومشاريعها المحاذية ظلت الخاصرة الأضعف لعمليات التسلل والاختراق، وهو ما أدركه التكفيريون، الذين وضعوا البلدة المسيحية الحدودية ضمن بنك أهدافهم الاحتياطية، وهو ما أظهرته تفجيرات القاع نفسها من الاستعدادات المعقدّة التي اعتمدتها تلك المجموعات المتشددة لتنفيذ «غزوة القاع»، إن على مستوى عدد الانتحاريين (ثمانية إلى عشرة)، أو لجهة تعمّد اشغال قوات الجيش السوري ووحدات «حزب الله» على جبهة سرغايا-الزبداني.
مصالحة روسية-تركية!
من جهة ثانية، كان ملفتاً للانتباه تزامن كل تلك الأحداث مع عملية ارهابية أخرى نفذتها المجموعات التكفيرية، بالطريقة ذاتها، ولكن هذه المرّة في تركيا، وفي نقطة بالغة الحساسية هي مطار أتاتورك في اسطنبول، الذي يعد واحداً من أكبر مطارات العالم، وأكثرها نشاطاً.
لكن الملفت للانتباه أكثر، أن الهجمات الإرهابية في مطار اسطنبول، قد ترافقت مع تطوّر سياسي بالغ الأهمية، عكس توجهات مفصلية لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالنزول عن الشجرة العثمانية واعتماد نهج واقعي إزاء أحداث الشرق الأوسط، من أبرز تجلياته تقديم الاعتذار لروسيا عن حادثة اسقاط طائرة السوخوي، التي قادت إلى أخطر أزمة في العلاقات بين موسكو وانقرة.
ولعل العبارات التي تضمنتها رسالة أردوغان للرئيس فلاديمير بوتين تعكس الكثير من الواقعية، حين قال بوضوح إن «روسيا هي بالنسبة لتركيا صديق وشريك استراتيجي»، مضيفاً «أود مرة أخرى أن أعبر عن تعاطفي وأقدم تعازيَّ الخالصة لعائلة الطيار الروسي وأقول: أعتذر. ومن كل قلبي نشاطرهم الآلام، عائلة الطيار الروسي نعتبرها عائلة تركية. بهدف تخفيف الألم وشدة الضرر نحن مستعدون لأي مبادرة».
تلك الواقعية سبق أن أظهرها أردوغان ايضاً حين أسقط الفيتو التركي عن العمليات التي تخوضها «قوات سوريا الديمقراطية» (ذات الغالبية الكردية) بدعم من الطيران الأميركي في ريف حلب الشمالي، وتحديداً في منطقة منبج الحدودية.
كل ذلك، يشي بأن الحصار على المجموعات التفكيرية، سواء «داعش» أو «جبهة النصرة»، سيزداد خلال الفترة المقبلة، وهو ما سيدفع بتلك الجماعات المتشددة الى اخراج ما لديها من أهداف خطيرة، على نحو مشابه لما حصل في القاع واسطنبول. وثمة قناعة راسخة بأن الرد الدموي من الأطراف التي كانت تقدم الدعم للمجموعات الإرهابية بالأمس (وأولها تركيا)، سيكون أشد قسوة في مرحلة التحوّل في المواقف، ومن المؤكد أن الاندفاع في عمليات إرهابية في الخارج، أي بعيداً عن الميدانين السوري والعراقي، سيندرج ضمن الاستراتيجية المقبلة للتكفيريين، الذين يبدو أن بنك اهدافهم لم ينفد بعد!
العراقيون يستعدون لتحرير الموصل .. والسعودية تطالب بتفكيك «الحشد الشعبي»
دعا وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الاربعاء الماضي، في باريس إلى تفكيك قوات «الحشد الشعبي» التي تُقاتل الى جانب الجيش العراقي ضدّ تنظيم «داعش»، متهماً إياها بتأجيج التوتر الطائفي.
وقال الجبير، خلال لقاء مع صحافيين في باريس، في ختام زيارة قام بها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إن «الحشد الشعبي طائفي وتقوده ايران»، مضيفاً: «كانت هناك تجاوزات» خلال معركة الفلوجة «نعتقد أن هذه الميليشيات يجب تفكيكها وينبغي على الجيش العراقي محاربة تنظيم الدولة الاسلامية».
ويستمر تقدم القوات العراقية في مواجهة مسلحي «داعش»، بالسيطرة على عدد من القرى تمهيداً لشن حملة عسكرية لطرد التنظيم من الموصل، كبرى مدن محافظة نينوى شمال العراق. وأوضح متحدث باسم الجيش أن القوات تقدمت عبر عدد من القرى التي يسيطر عليها التنظيم واتجهت نحو قاعدة القيارة الجوية، التي يمكن استخدامها لاحقاً لشن هجمات على الموصل. وكان لتحرير الفلوجة الأثر الكبير في تزخيم حملة استعادة الموصل. وسيطرت قوات الجيش، التي تواصل زحفها بمحاذاة الضفة الشرقية لنهر دجلة على عدد قليل من القرى، برغم انطلاقها من بلدة مخمور قبل أكثر من ثلاثة أشهر.
Leave a Reply