ثمة مفارقة محزنة تحكمت بعملية الإنتظار اللبناني المشوّق لتقرير لجنة التحقيق الإسرائيلية حول حرب تموز التي عرفت بإسم «لجنة فينوغراد» نسبة إلى القاضي الإسرائيلي المتقاعد إلياهو فينوغراد الذي ترأس هذه اللجنة التي خرجت بإستنتاجاتها على مرحلتين.
هذه المفارقة تمثلت بغوص الحزب اللبناني المقاوم المسؤول عن «الإخفاق الكبير والخطير» الذي منيت به المؤسستان العسكرية والسياسية في إسرائيل، في وحول الإنقسامات اللبنانية الداخلية، حتى لو كان هذا الغوص بغير إرادة منه فرضته وقائع محلية وعربية ودولية كانت من تداعيات الحرب التي شنتها إسرائيل وأخفقت من خلالها في تحقيق أية أهداف سياسية أو عسكرية كما اعترف التقرير ذاته.
ففي الوقت الذي كانت قيادة المقاومة وجمهورها المحلي والعربي بانتظار «الزلزال السياسي» الذي لم يقع داخل إسرائيل، بسبب جنوح لجنة فينوغراد إلى عدم تحميل مسؤوليات شخصية عن الإخفاق في الحرب وبالتالي تنفس إيهود أولمرت الصعداء بعد كابوس من الإنتظار إستمر لأشهر طويلة.. في هذا الوقت كانت الساحة اللبنانية السياسية والشعبية تغرق في مستنقع من التوتر والغضب والإنقسام على ضجيج الدم المراق عند خط التماس الأشهر في الحرب الأهلية بين 1975-1990 وبحيث غطت مجزرة «الأحد الأسود» التي يجري البحث والتدقيق عن مسؤوليها على فرحة المقاومة وجمهورها بأصرح إعتراف إسرائيلي بالهزيمة التي أصابت الكيان الصهيوني، على أيدي «بضعة آلاف من المقاتلين في تنظيم شبه عسكري»، صمدوا لثلاثة وثلاثين يوماً في وجه «الجيش الأقوى في الشرق الأوسط» وعرضوا الجبهة الداخلية الإسرائيلية لأخطر إمتحان منذ نشوء الكيان الصهيوني قبل نحو ستين عاماً.
التقرير النهائي للجنة فينوغراد ورغم تعداده لأوجه القصور السياسي والعسكري التي اعترت أداء «الجيش الذي لا يقهر» وتعيينه «لمواضع الفشل والعيوب الخطيرة في الإستناد إلى التفكير والتخطيط الإستراتيجي» و«في الدفاع عن الجبهة الداخلية بمواجهة إستهدافاتها» هذا التقرير لم يعدم البحث والتنقيب عن «إنجازات» حققتها إسرائيل في الحرب وصفها التقرير بأنها «غير قليلة» مثل قرار مجلس الأمن 1701 الذي وصفه التقرير بـ «الإنجاز السياسي ذي المغزى».
يوحي هذا التلميح الإسرائيلي إلى «الإنجاز السياسي» اليتيم أن ما قصرت عنه آلة الحرب الإسرائيلية طيلة ثلاثة وثلاثين يوماً تكفل به المجتمع الدولي الذي اندفع إلى تعويض إسرائيل عن فشلها في تحقيق نصر عسكري وسياسي من خلال القرار الدولي الذي قضى بنشر ثلاثين ألف جندي دولي ولبناني عند الحدود الدولية حارماً المقاومة اللبنانية من العودة إلى الحدود، أقله في ظل الوضع اللبناني الحالي المأزوم الذي يحكمه الإنقسام الحاد حول دور المقاومة ومستقبل سلاحها في عملية البحث المضني عن تسوية جديدة تنقذ الصيغة اللبنانية من مخاطر التلاشي التي تتهددها والتي لم يتبق من عناصر لحمتها سوى مؤسسة الجيش اللبناني التي توضع أمام إمتحانات متتالية كان أخطرها، بعد إمتحان نهر البارد، إمتحان «مار مخايل» الذي لو قدر للممتحنين «المجهولين» أن يفلحوا في فرض تحدياته على هذه المؤسسة وقائدها المنذور توافقيا لرئاسة الجمهورية لفقدت صيغة التعايش اللبناني آخر سقوف الحماية المتوافرة لها بعد إنهيار كل الأسقف المؤسساتية الأخرى أو شللها، من رئاسة الجمهورية إلى المجلس النيابي والحكومة المتنازع حول شرعيتها والتي لا تساوي رُبع سلطة في افضل الحالات.
التقرير الإسرائيلي حول حرب تموز وهو الثاني من حيث خطورته في تاريخ الكيان الصهيوني بعد تقرير «حرب يوم الغفران» (حرب تشرين 1973) الذي أطاح برئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير، يقدم بالتوازي مع الإعتراف بـ «الإخفاق الكبير والخطير» في حرب لبنان الثانية كما تسميها المؤسسة الحاكمة في إسرائيل دليلاً برسم اللبنانيين والعرب جميعا على أن الكيان الصهيوني الناشئ من لملمة الشتات اليهودي بكل تناقضاته، تحت شعار ديني موحد يعتمد في تفوقه على القدرة العسكرية الهائلة والإقتصادية والتكنولوجية المتطورة، بقدر إعتماده على مؤسسة دولة تعمل باستمرار على حفظ تماسك ووحدة هذا الخليط الهجين من يهود الأرض. هذه المؤسسة تتجاوز السياسة وتفاصيلها وتتوجه نحو مواضع الضعف والخلل في الكيان الصهويني غير مترددة في تقديم قرابين سياسية من عتاة المؤسسة الحاكمة إذا اقتضت مصلحة الدولة بذلك دون أي تردّد.
مايجب أن يلتفت إليه المهللون لتقرير فينوغراد من اللبنانيين والعرب أن هذه اللجنة لا تؤدي وظيفة سياسية وليس من إختصاصها توجيه قرارات المؤسسة الحاكمة في إسرائيل بمظهرها العسكري الطاغي، إنما تؤدي دوراً علاجياً لأخطاء الساسة والعسكر في مسيرة الكيان الصهيوني الذي لم يكن ليستمر ويتفوق على الدول العربية مجتمعة بما يشبه المعجزة طيلة ستين عاماً إلا في ظل الفكرة الجوهرية التي تقوم على مسؤولية الدولة كمؤسسة مرجعية و«سلطة الشعب» التي ترك لها تقرير فينوغراد بحث مصير رئيس الوزراء، وسيادة القانون الذي لا يعلو فوقه أي مسؤول مهما علا شأنه وعظم دوره.
إن منطق إستخلاص العبر الذي حكم عمل لجنة فينوغراد هو ما ينبغي أن يلتفت إليه اللبنانيون خاصة وهم يخوضون أشرس المعارك الكلامية على ضفتي إنقسامهم. وإن كان من حقهم وحق مقاومتهم التي صمدت في وجه أشرس حرب على بلدهم تشنها إسرائيل منذ غزو العام 1982 أن يفرحوا بذلك الإعتراف الإسرائيلي بالإخفاق في تحقيق أي أهداف سياسية أو عسكرية إلا أنهم مطالبون بإبداء الكثير من الحكمة والحذر في مواجهة كيان عدواني تحاول لجانه القضائية تعيين مواضع الخلل في القيادتين العسكرية والسياسية وسد الثغرات التي مكنت المقاومة اللبنانية من هزيمة جيشه تحفزاً لشن عدوان جديد يهدف إلى إستعادة الهيبة وقدرة الردع اللتين أهنيتا على أيدي مقاتلين أبدوا قدرات أسطورية على الصمود والثبات ويتطلب تحصين صمودهم بوجه الإستهدافات القادمة مظلة داخلية يخشى أن عدوهم يعمل على تمزيقها وتشتيتها في حروب شوارع وأزقة تدرك المقاومة أنها مقبرة لطموحاتها وطموحات جماهيرها.
وما أحداث «الأحد الأسود» التي تنتظر تحديد مسؤوليات (قد لا تتحدد أبداً) سوى نذير شؤم بأن الحرب الأهلية قد أزفت، وأخطر إشاراتها وضع مؤسسة الجيش الوطني في دائرة الشكوك والشبهات والإتهامات.
فعندما تنجح هذه المؤسسة في حفظ أمن ساحات نزل إليها ملايين الناس وتخفق أمام «تظاهرة مطلبية» من بضع عشرات من المحتجين على «إنقطاع الكهرباء» يجب البحث عن الخلل في مكان خارج حدود هذه المؤسسة وليس داخلها. ذلك بصرف النظر عن إستمرار قائدها مرشحاً توافقياً أو عدمه.
لقد قالها العماد ميشال سليمان قبل أسبوعين من أحداث الأحد الأسود: إنني أحمل قنبلة موقوتة وأعمل على نزع صاعقها كي لا تنفجر وتصيب شظاياها مقتلاً من الشعب والجيش والمقاومة. ثمة فرصة أخيرة بالفعل أمام اللبنانيين حين يعود عمرو موسى إلى ديارهم – إن عاد – وعليهم إلتقاطها والشروع بتنفيذ الخطوة الأولى على طريق العودة إلى صوابهم الوطني بانتخاب رئيس الجمهورية الذي أجمعوا على توافقيته والإبتعاد عن محاولة إخضاعه والمؤسسة التي قادها بجدارة لأي نوع من الفحوص لأن شبح الحرب الأهلية بات أقرب إليهم من حبل الوريد. فهل يفعلون؟
Leave a Reply