نبيل هيثم – «صدى الوطن»
في الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس-بيكو، تشي المؤشرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط بأن مخطط التقسيم الذي رسم الديبلوماسيان البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو خطوطه الوهمية على خريطة الامبراطورية العثمانية المتصدّعة يسير باتجاه أكثر خطورة يتمثل في تقسيم المقسّم وتجزئة المجزأ.
على هذا النحو، كان يوم السادس عشر من أيار، ذكرى توقيع الاتفاقية المشؤومة، يشهد تطورات رمزية في إطار استمرار الظاهرة التفكيكية والتقسيمية للمنطقة العربية، كان أبرزها التسليم الدولي الضمني بفشل كل محاولات الحل السياسي في سوريا، بعد دخول مفاوضات جنيف في عنق الزجاجة، وعودة شبح الاقتتال الطائفي في العراق نتيجة للخلافات السياسية المستمرة، ودخول مصر على خط جهود التسوية الإسرائيلية-الفلسطينية عبر «مبادرة» طرحها الرئيس عبد الفتاح السيسي منطلقها اتفاقية كامب ديفيد.
وخلف كل هذه التطورات الرمزية، المندرجة في اطار السيناريو التقسيمي، أمر واقع بات مفروضاً على سوريا والعراق، منذ بدء مرحلة الربيع العربي، لعل أبرزها على الاطلاق قيام ما يسمى «الدولة الاسلامية»، وتكريس الفدرالية من قبل الأكراد في شمال سوريا، بعد 15 عاماً على تحولها الى أمر واقع في شمال العراق، وأعلان إسرائيل عن «أبدية» ضمها للجولان السوري، وفوق كل ذلك، استمرار التدخلات التركية للثأر التاريخي من «سايكس-بيكو»، حتى وإن كان البديل المطروح أسوأ من الاتفاقية التاريخية ذاتها. وبعد قرن من رسم حدود الشرق الأوسط في الاتفاقية السرية البريطانية-الفرنسية، عقب هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الاولى، يطمس العنف الطائفي الحدود الاستعمارية.
سوريا وخطر التفتيت
في سوريا، لا يبدو أن جهود التسوية السياسية التي يبذلها المجتمع الدولي قريبة من خواتيم سعيدة تبعد شبح التقسيم الذي بات أمراً واقعاً على امتداد التراب السوري.
مبعوث الأمم المتحدة الخاص الى سوريا ستيفان دي ميستورا كان واضحاً في تشاؤمه، حين قال إن القوى الكبرى فشلت في الاتفاق على موعد جديد لمحادثات السلام بين الأطراف المتحاربة في سوريا، مقرّاً بأن «القضية لا تزال بانتظار نتيجة ملموسة»، قبل ان يضيف «ما من هذا الاجتماع لكن لا يمكننا الانتظار طويلا نريد أن نحافظ على الزخم».
كل ما بات يأمل به الوسيط الدولي هو إعادة تكريس هدنة ميدانية في سوريا قبل شهر رمضان، بعد انهيار اتفاق وقف العمليات العدائية نتيجة لتعنت الأطراف المتنازعة، ودخول أكثر من جهة اقليمية ودولية على خط التحريض، لدى الجماعات المسلحة، على اختلاف تلاوينها.
وبصرف النظر عن احتمالات النجاح والفشل في جنيف، يبدو واضحاً، في مئوية سايكس-بيكو، ان الدولة السورية الموحدة، حتى بشكلها الذي حددت معالمه الاتفاقية الفرنسية-البريطانية، قد اصبحت من الماضي، فالمعطيات الميدانية والسياسية توحي بأن سوريا الغد لن تكون كما كانت عشية الخامس عشر من آذار (مارس) العام 2011.
ويبدو أن هذا الواقع التقسيمي بات هدفاً لجهات كثيرة في سوريا، بدءاً بالإسرائيليين الذين يجهدون لاستثمار الأمر الواقع بهدف تأبيد السيطرة على الجولان المحتل، او الأكراد الذين يطمحون الى تشكيل كيانهم السياسي المستقل في الشمال السوري، وصولاً الى الاسلاميين، على اختلاف تلاوينهم، الراغبين في تشكيل دويلتهم السلفية.
وتزامن مع الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو عقد مؤتمرات وطرح آراء سياسية في إسرائيل بشأن مستقبل الشرق الأوسط عموماً، وسوريا بشكل خاص.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان الأكثر وقاحة في التعبير عن طموحات إسرائيل في مرحلة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ في سوريا، حين جمع اعضاء حكومته في الجولان، وجزم بأن ضم الهضبة السورية المحتلة يجب أن يلقى اعترافا دولياً، وإن أحد أسباب ذلك أن دمشق ربما لم تعد قادرة على الاحتفاظ بما يكفي من السلطة المركزية اللازمة للتفاوض لاستعادة الهضبة الإستراتيجية.
وبعيداً عن البروباغندا السياسية، فإن أكثر من استطاع التعبير عما يجول في بال الإسرائيليين هذه الأيام كان السياسي الإسرائيلي البارز دوري غولد، الذي أشار الى ان «انصهار الحدود مع الربيع العربي والشتاء الإسلامي خلق واقعاً يشير إلى عدد من المحاذير التي يتعين على إسرائيل أن تضعها في الاعتبار في المستقبل». لا بل ذهب الى تبرير اندفاعة نتنياهو الاخيرة تجاه الجولان، بالقول إن «مبعوث الأمم المتحدة للسلام في سوريا جعل الجولان جزءاً من اقتراحات لإعادة توحيد الدولة التي تمزقت على مدى خمس سنوات من الحرب الأهلية… وهذا يثير من وجهة نظري صورة لاجتماع سري ما في قبو أحد مقار الحكم في أوروبا، حيث يجلس سايكس وبيكو القرن الحادي والعشرين، وبحوزتهما خرائط ومعهما رسامون ويحاولان إعادة رسم حدود الشرق الأوسط».
في العراق
وعلى المقلب الآخر، يبدو واضحاً ان الأكراد، وهم شعب بلا دولة تعداده عشرات الملايين، يحاولون اقتناص فرصة الفوضى لتحقيق حلم الاستقلال. وفي موازاة توسيع أكراد العراق لمناطق سيطرتهم الغنية بالنفط في الشمال العراقي، المتمتع بالحكم شبه المستقل، فإن اكراد سوريا، الذين يسيطرون على ثلاث محافظات، يسعون للانتهاء في وقت لاحق من العام الحالي من وضع خطط اتحاد سياسي متمتع بالحكم شبه المستقل. ويعي الأكراد أن الولايات المتحدة تريد بقاء العراق وسوريا كما هما ولذلك لم يعلنوا الاستقلال. لكن بعض السلطات الكردية تبدو ماضية في هذا الاتجاه.
الأكثر تعبيراً عن هذا التوجه، كان مسرور البرزاني، مستشار مجلس أمن اقليم كردستان العراق، الذي كتب، تحت وسم #سايكس-بيكو عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، ان «مئة عام من الفشل وإراقة الدماء تكفي سببا لمحاولة المضي في طريق جديد… وبالنسبة لكردستان حان الوقت لإنهاء الظلم».
لكن طموحات الأكراد ليست وحدها ما يتهدد وحدة العراق، فتزامناً مع مئوية سايكس-بيكو، كان الصراع على السلطة احتدم بين السنة والشيعة، لا بل يمتد الى داخل كل معسكر، مع تعثر محاولات تشكيل حكومة جديدة.
ومنذ سيطرة تنظيم «داعش» على مناطق واسعة تقارب ثلث مساحة العراق في العام 2014، بدا واضحاً ان ثمة محاولات تبذلها قوى سنية مدعومة من السعودية لتشكيل «إقليم سني» في غرب بلاد الرافدين على غرار «الإقليم» الكردي» في الشمال، وقد سوّق هؤلاء لهذا الطرح في واشنطن، ولا يزالون، كشكل للحل السياسي في العراق، بعد المعركة المؤجلة ضد «الدولة الاسلامية»، والمتمثلة بعملية تحرير الموصل، التي ما زالت تواجه الكثير من العقبات الداخلية والخارجية. وبرغم خطورة طرح «الإقليم السني»، وتأثيراته الكارثية على وحدة العراق، فإن الازمة السياسية في بلاد الرافدين تنذر بمزيد من التقسيم.
وللمرة الأولى منذ الانسحاب الأميركي في نهاية العام 2011، اقتربت القوى الشيعية الشهر الماضي من حمل السلاح في مواجهة بعضها البعض حين اقتحم مؤيديون لرجل الدين الشيعي واسع النفوذ مقتدى الصدر مبنى البرلمان داخل المنطقة الخضراء في بغداد. وتمركز مسلحون من جماعات شيعية منافسة في مواقع قريبة، ما أثار شبح اندلاع قتال فيما بين الشيعة على غرار ما شهدته مدينة البصرة في جنوب البلاد في العام 2008 حين قتل مئات الأشخاص.
وبرغم انحسار احتمال اندلاع العنف بعد أيام قليلة، حين غادر أتباع الصدر المنطقة الخضراء، فإن تلك الواقعة قدمت لمحة من صراع على الهيمنة داخل الطائفة الشيعية التي يفترض بها أن تكون متحدة في جهود هزيمة تنظيم «داعش» الذي سيطر على نحو ثلث أراضي العراق في العام 2014.
بحلول 16 أيار 2016، انتهت فترة صلاحية اتفاقية سايكس-بيكو المحددة بمئة عام. وفي ظل ما تشهده ميادين القتال وحلبات السياسة في سوريا والعراق، وما يحاك في عواصم القرار الدولي، وفي الغرف السرية لأجهزة الاستخبارات الاقليمية، يبدو الكل راغباً في فرض أجندته، حتى بدا أن الطريق مفتوح للشروع في مخطط إعادة رسم حدود الشرق الأوسط الجديد… ليبقى السؤال أي اتفاقية تحل محل سايكس-بيكو وأي خريطة جيوسياسية تحضر للمنطقة العربية بشروط الأقوياء؟
تركيا ما تزال راغبة في الثأر!
ما زال الشعور بالضغينة، الذي يكنه الاتراك لاتفاقية سايكس-بيكو محركا أساسياً للسياسة الخارجية، خصوصاً لدى نظام رجب طيب أردوغان الطامح الى استعادة امجاد أسلافه العثمانيين.
وبالرغم من أن الجمهورية التركية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال اتاتورك (1923) قطعت العلاقات بين الدولة التركية الحديثة وتاريخها الامبراطوري، إلا أن الوضع بدأ يتغير منذ وصول اردوغان الى الحكم في العام 2002، حيث تبنى سياسة خارجية تسعى الى استعادة تركيا لمكانتها في أراضي الامبراطورية السابقة… من البوسنة الى السعودية.
وفي مؤشر على طموحاتها الخارجية سعت تركيا الأردوغانية الى انشاء منطقة للتبادل الحر تشمل سوريا ولبنان والاردن ثم في مرحلة لاحقة العراق، ولم تكد رياح ما يسمى «الربيع العربي» تهب على الشرق الاوسط، حتى اقتنص أردوغان الفرصة، لتقويض الاتفاقية البريطانية-الفرنسية، التي تثير حنق الاتراك، مندفعاً في مغامرة اقليمية خطيرة، أيقظت شياطين سايكس-بيكو لدى الأتراك، وهو ما أفصح عنه أردوغان نفسه حين قال في العام 2014، إن «كل نزاع في المنطقة تم التخطيط له قبل قرن».
وكشف أردوغان عن طموحات تركيا «ما بعد العثمانية» في اطار النزاع السوري، عبر تشجيعه على اسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، ومحاولاته الاستحواذ على منطقة نفوذ في شمال العراق، ناهيك عن محاولات خلق قاعدة للهلال التركي في مصر… لكن مخططاته انقلبت عليه الى حد كبير.
مؤخراً استغل المسؤولون الأتراك عدة مراسم لإحياء ذكرى أحداث مختلفة تعود الى الحرب العالمية الأولى لكيل الانتقادات الى المعاهدة الفرنسية البريطانية، كما حصل في مئوية انتصار العثمانيين على قوات التحالف في 29 نيسان (أبريل) الماضي في كوت العمارة في بلاد الرافدين، حين قال داود أوغلو أن «روحية كوت العمارة ستنتصر مهما حصل… وستشهد سايكس بيكو هزيمة نكراء». لكن داود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية لأردوغان، بات حالياً خارج المشهد السياسي، ويبدو أن تركيا بدأت تدفع ثمن مغامراتها الامبراطورية على المستوى الامني والسياسي والديموغرافي بعد انتكاس مشروعها في سوريا، وهو أمر يثير الشكوك حول قدرة السلطان العثماني الجديد على المضي قدماً في مخططاته الثأرية.
اتفاقية سايكس – بيكو
اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، كانت اتفاقا وتفاهماً سرياً بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى.
وتم الوصول إلى هذه الاتفاقية بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1915 وأيار (مايو) 1916 بمفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، وكانت على صورة تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك. ولقد تم الكشف عن الاتفاق بوصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917، مما أثار الشعوب التي تمسها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا وكانت ردة الفعل الشعبية-الرسمية العربية المباشرة قد ظهرت في مراسلات حسين مكماهون.
ولقد تم تقسيم منطقة الهلال الخصيب بموجب الاتفاق، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعا بالإتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
لاحقاً، وتخفيفاً للإحراج الذي أصيب به الفرنسيون والبريطانيون بعد كشف هذه الاتفاقية ووعد بلفور، صدر كتاب تشرشل الأبيض سنة 1922 ليوضح بلهجة مخففة أغراض السيطرة البريطانية على فلسطين. إلا أن محتوى اتفاقية سايكس-بيكو تم التأكيد عليه مجدداً في مؤتمر سان ريمو عام 1920. بعدها، أقر مجلس عصبة الأمم وثائق الانتداب على المناطق المعنية في 24 حزيران (يونيو) 1922. لإرضاء أتاتورك واستكمالاً لمخطط تقسيم وإضعاف سوريا، وعقدت في 1923 اتفاقية جديدة عرفت باسم «معاهدة لوزان» لتعديل الحدود التي أقرت في «معاهدة سيفر». وتم بموجب معاهدة لوزان التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية إضافة إلى بعض المناطق التي كانت قد أعطيت لليونان في المعاهدة السابقة.
وقسمت هذه الاتفاقية وما تبعها سوريا الكبرى أو المشرق العربي إلى دول وكيانات سياسية كرست الحدود المرسومة بموجب هذه الاتفاقية والاتفاقيات الناجمة عنها:
العراق، الذي أستقل عام 1932.
سوريا، استقلت فعلياً عام 1946
لبنان، استقل ككيان مستقل عام 1943.
الأقاليم السورية الشمالية ضمت لدولة تركيا
الأردن، استقل عام 1946 (كانت منطقة حكم ذاتي منذ 1922)
فلسطين، انتهى مفعول صك انتداب عصبة الأمم على فلسطين يوم 14 أيار 1948 وجلى البريطانيون عنها. لكن في اليوم التالي أعلن قيام إسرائيل فوق أجزاء كبيرة من حدود الانتداب البريطاني على فلسطين وبدأ الصراع العربي الإسرائيلي.
Leave a Reply