نبيل هيثم – «صدى الوطن»
للمرة الأولى يجد تنظيم «داعش» نفسه في موقع الدفاع… لا الهجوم.
«دولة الخلافة»، التي أعلنها أبو بكر البغدادي، والتي نجحت قبل ثلاثة اعوام في «إسقاط حدود سايكس-بيكو»، كما صوّره العرب والعجم على حد سواء، باتت اليوم ولايات تتساقط، لا بل مجرّد جيوب مقطعة الأوصال، من حلب والرقة في سوريا، الى الموصل والفلوجة في العراق.
ومنذ بروز تنظيم «داعش» في العام 2013، بعد انشقاق أبو بكر البغدادي تنظيمياً وعقائدياً عن تنظيم «القاعدة» الأم، بقيادة أيمن الظواهري، في إطار ما عرف حينها بـ«الفتنة الجهادية»، تمددت دولة «داعش» على مختلف الجبهات، حتى باتت معظم الأطراف تعتبر أن «الدولة الاسلامية» المزعومة باقية، وأنها باتت أمراً واقعاً لا يمكن هزيمته إلا بعد سنوات طويلة، بحسب تصريحات كبار المسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم الرئيس باراك أوباما.
باقية وتتمدد
ومنذ ذلك الوقت، كانت سخونة القتال تشتد، في أكثر من جبهة، ضد «داعش» حيناً، ثم تخفت حيناً، حسب طبيعة التطورات الميدانية والسياسية، في كل من العراق وسوريا، حتى وصلت دولة «داعش» أوجها فامتدت من مشارف بغداد الى الموصل مروراً بكامل الأنبار والجزيرة السورية (الحسكة، دير الزور، الرقة) وصولاً الى حلب والحدود التركية وجبال القلمون والحدود اللبنانية.
وثمة أمران أساسيان ساهما في هذا التمدد السريع والمفاجئ لدولة «داعش»، الأول نفسي، حيث كرّست «الغزوات» الواسعة التي شنها مقاتلو التنظيم صورة في اذهان كافة الاطراف المحلية والاقليمية والدولية بأن إلحاق الهزيمة السريعة بـ«داعش» أمرٌ شبه مستحيل، والثاني لوجيستي-عسكري لأن امتدادات الحالة التي يمثلها التنظيم الإرهابي باتت تتجاوز بأشواط كبيرة، الحالة «الجهادية» التقليدية التي كان ممكناً احتواؤها حيناً أو ضربها حيناً آخر مثلما هي الحال مع تنظيم «القاعدة» بقيادة اسامة بن لادن وخليفته أيمن الظواهري.
على هذا الأساس، سلّم كثيرون بـ«الامر الواقع»، الذي كرّسه أبو بكر البغدادي، الذي راح، مع كل انهيار في الجبهات هنا وهناك، يعمد الى توسيع نطاق «الخلافة» المزعومة، مرّة في سيناء المصرية، ومرّة اخرى في حضرموت اليمنية، ومن ثم في سرت الليبية… وصولاً الى نيجيريا، عدا عن الضربات الإرهابية في القارة العجوز وحول العالم!
صمود القوى المحلية
ولكن التاريخ سيسجل، من دون أدنى شك، أن القوى المحلية وفي مقدمتها الجيش السوري والوحدات الكردية و«حزب الله» كانت كفيلة بتغيير هذا الواقع بإسقاط السلاح النفسي الذي امتلكه تنظيم «داعش»، واكسبه اندفاعاً ميدانياً غير مسبوق.
في اواخر العام 2014، وقف العالم كله يتفرّج على ما يجري في شمال سوريا، حين ترك الاكراد لمصيرهم امام الزحف «الداعشي». كان سقوط مدينة عين العرب/كوباني بمثابة النهاية للأكراد، الذين كان سيلحق بهم ما لحق قبل أشهر، بالأقلية الإيزيدية في العراق.
في خضم تلك المعركة، خرج أحد قادة «حزب العمال الكردستاني» ليقول بثقة، إن المعركة ضد «داعش» نفسية بالدرجة الأولى، وإن المقاتلين الأكراد، على اختلاف مسمّياتهم، والقوى المحلية الاخرى في المنطقة، قادرة على الحاق الهزيمة بالارهاب، في حال امتلكت الثقة اللازمة بتحقيق النصر، واحسنت في تطويع الظروف الاقليمية والدولية لصالح المعركة ضد التكفيريين.
ما قاله القيادي الكردي تحقق بالفعل، فصمود مدينة كوباني، حطّم الاسطورة «الداعشية». وكان واضحاً ان المقاتلين الاكراد، والى جانب امتلاكهم إرادة الصمود، قد أحسنوا ضرب العنجهية النفسية لـ«الدواعش»، عبر الدفع بـ«وحدات حماية المرأة» في المعركة، وهي وحدات قتالية، وبصرف النظر عن امكانياتها، ألحقت هزيمة نفسية كبرى بالتكفيريين، عبر نظرتهم الدونية للمرأة عموماً.
كما فشل التنظيم في دخول مدينة الحسكة التي دافع عنها الجيش السوري بشراسة ما مهد الطريق لاحقاً أمام الوحدات الكردية لتحرير ريف الحسكة الجنوبي بأكمله، فيما لا يزال الجيش السوري صامداً في مدينة دير الزور ومطارها العسكري منذ إعلان «دولة الخلافة» وحتى اليوم حيث تقف وحدات الحرس الجمهوري المرابضة على الضفة الغربية من نهر الفرات حاجزاً منيعاً أمام غزوات «داعش» التي تتحطم يومياً أمام دفاعات الجيش السوري والقوى الرديفة من أبناء العشائر.
وعلى المقلب الآخر، كان «حزب الله»، وبالتنسيق مع الجيش اللبناني، يسقط كل المحاولات «الداعشية» لاقامة «إمارة/ولاية» لبنان، على اكثر من جبهة، بدءاً بجبهة عرسال، وبعدها بريتال، مروراً بالقلمون، وصولا الى جبهات القتال المختلفة في سوريا.
وما ينطبق على «وحدات حماية الشعب» و«حزب الله» ينسحب أيضاً على قوات «الحشد الشعبي» في العراق، التي تجاوزت الكثير من «التابوهات» المذهبية، ومضت في المعركة ضد «الدواعش» بخطى وثيقة، مكّنتها، الى جانب الجيش العراقي، من استعادة السيطرة على الكثير من المناطق، حتى تلك التي كانت تشكل خطراً استراتيجياً على العراق عموماً، وبغداد على وجه الخصوص.
الخناق يضيق
ولكن حتى تلك اللحظة، كان الأمر يتعلق بانتصارات ميدانية، لم تكن كافية، على اهميتها، لتبديد الخطر «الداعشي». فمنذ بدء الحملات العسكرية ضد التنظيم الإرهابي، لم تكن هناك استراتيجية موحدة فاعلة وواضحة بين قوات «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة، وبين بقية الأطراف المعادية للتنظيم التكفيري، بما في ذلك الجيش السوري، والقوات الجوية الروسية، والمقاتلين الاكراد، و«حزب الله»، وباقي التشكيلات الموالية لهذا الطرف أو ذاك.
وهذا ما يفتح المجال للحديث عن النقطة الثانية، التي اسهمت مؤخراً في تغيير المعادلة الميدانية، والتي يحسب الفضل فيها لروسيا، التي يبدو انها نجحت، بعد جهد عسكري وديبلوماسي حثيث، في احداث تحوّل في استراتيجيات القتال ضد «داعش».
هذا التحوّل، تعكسه المعطيات الميدانية في سوريا والعراق خلال الأسبوعين الماضيين، حيث يحاول «داعش» صد أكثر من هجوم في أكثر من جهة، بدءاً من الفلوجة في العراق مروراً بشمال الرقة وغربها، وصولاً الى شمال حلب، وهي هجمات بات واضحاً ان ثمة خيطين يجمعها، احدهما يشير الى واشنطن، والثاني الى موسكو.
على هذا الأساس، بات «داعش» اليوم مضطراً لخوض القتال على عدّة جبهات في آن واحد، أولها في شمال الرقة الذي يشهد تقدّماً ملحوظاً من قبل «قوات سوريا الديمقراطية»، وهو تشكيل كردي-عربي يحظى بدعم الولايات المتحدة على مستوى التدريب والتسليح والتنسيق الاستخباراتي، وثانيها في غرب حلب، حيث تخوض بعض الفصائل المعارضة المسلحة المدعومة أميركياً معركة جديدة للحفاظ على منطقتي مارع واعزاز، على الحدود السورية-التركية، الى جانب جبهة أخرى يخوضها الاكراد في مدينة منبج، التي تعتبر نقطة استراتيجية لـ«داعش» بوصفها صلة الوصل بين الرقة وتركيا.
وعلى جانب آخر، وبتواز مثير للاهتمام مع جبهات شمال الرقة وحلب، برز تحوّل مهم في العمليات العسكرية التي يخوضها الجيش السوري، مدعوماً بالغطاء الجوي الروسي والفصائل الحليفة على الارض، وهو تأجيل معركة حلب، والدفع بالقوات العسكرية من ريف حماه باتجاه ريف الرقة، في عملية حققت نتائج غير متوقعة حتى الآن، بعدما تمكن الجيش السوري، وللمرة الاولى منذ عامين، من اختراق الحدود الإدارية لمحافظة الرقة، والوصول الى مسافة 20 كيلومتراً من مدينة الطبقة، التي تحوي مطارا عسكرياً وترسانة اسلحة هائلة لـ«داعش» في معقله الرئيسي في الرقة، علماً بأن العمود الفقري لهذا الهجوم يشكله قوات «صقور الصحراء»، التي تلقت تدريباً روسياً مباشراً.
يتبدّى اذاً، من سير العمليات العسكرية، ان ثمة توافقا بين روسيا والولايات المتحدة على تنسيق المعركة ضد «داعش»، ولو بالحد الادنى، وتقاسماً للادوار في ادارة العمليات بين شمال الرقة، حيث يبرز الدور الاميركي، وبين جنوبها وغربها، حيث الدور الروسي.
على هذا الأساس، وفي تصريح نادر جداً من الجانب الاميركي، لم يجد المتحدث باسم «البنتاغون» العقيد كريستوفر هارفير حرجاً في القول ان وزارة الدفاع الأميركية «تؤيد» التقدم الذي أحرزته القوات الحكومية السورية بدعم جوي من القوات الجوية الفضائية الروسية في عملية استعادة مدينة الرقة.
أفول «داعش»؟
المعارك التي تدور الآن في العراق وسوريا تهدف الى تقطيع أوصال التنظيم وتشديده ومنعه من المناورة بين العراق وسوريا وبالعكس، أو حتى ضمن البلد الواحد، وهو ما ينقله الى تكتيك الدفاع بدل الهجوم.
ومع ذلك، فمن السذاجة القول ان المعركة في طريقها الى حسم سريع، فالتجربة أظهرت أن «داعش» هو «سمكة في الصحراء»، وفقاً للتعبير العسكري التقليدي الشهير، أي أنه في حال حوصر في مكان، يضرب في مكان آخر، وفي جعبته الكثير من المناورات العسكرية، بدءاً باطالة امد المعارك التي يخوضها على كافة الجبهات، مروراً بالاستماتة للسيطرة على مارع واعزاز، بما تمثلهما من نقاط استراتيجية، وصولاً الى تشتيت الجنود في الجبهات العسكرية المقابلة عبر الهروب الى الأمام وفتح جبهات جديدة من الانبار في العراق، مروراً بدير الزور وحمص والقلمون، أو حتى نقل المعركة الى خارج النطاق التقليدي لـ«دولة الخلافة» في سوريا والعراق، عبر التركيز على جبهات اخرى مثل ليبيا واليمن.. وصولاً الى أفغانستان ونيجيريا.
Leave a Reply