وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
بات مشهد استهداف القوات الأميركية مألوفاً لدى العراقيين، ورؤية أعمدة الدخان تتصاعد من منشآت القواعد الأميركية أمراً اعتيادياً. تخف وتيرة الهجمات أحياناً ثم تعنف مرة أخرى وتعود إلى واجهة الأحداث من جديد، تبعاً لمتغيرات الوقائع المحيطة، وعلى وقع المستجدات في الإقليم.
أكثر من خمسة وأربعين هجوماً أُحصيت منذ مطلع هذا العام ضد القوات الأميركية استهدف معظمها «المنطقة الخضراء» التي تضم السفارة الأميركية.
تصاعد وتيرة الهجمات
آخر هذه الهجمات وقع فجر الخميس الماضي ضد السفارة الأميركية وسط بغداد، بعدة صواريخ ردت عليها القوات الأميركية عبر منظومتها الدفاعية.
قبل يوم واحد من هذا الهجوم أي يوم الأربعاء الماضي، سقط 14 صاروخاً على قاعدة «عين الأسد» التي تضم عسكريين أميركيين في محافظة الأنبار غربي العراق، ما أدى إلى إصابة شخصين بجروح طفيفة، وفقاً لمتحدث باسم التحالف الدولي، وقد أعلن «لواء ثأر المهندس» مسؤوليته عن إطلاق الصواريخ على القاعدة، بحسب بيان تداولته مواقع التواصل الاجتماعي.
الجدير ذكره هنا، أن قاعدة «عين الأسد» الجوية تقع في ناحية البغدادي، على بعد تسعين كيلومتراً غرب مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار، وهي أكبر قاعدة عسكرية للقوات الأميركية في العراق.
بدورها، قالت خلية الإعلام الأمني في العراق، إن السيارة التي استُخدمت كمنصة لإطلاق الصواريخ كانت تحمل مادة الدقيق للتمويه.
وكان سبق ذلك، استهداف مطار إربيل الدولي بطائرة مسيرة مفخخة، ما أدى إلى اندلاع حرائق فيه، من دون وقوع إصابات، فيما تحدثت مصادر عراقية عن أن الهجوم وقع بالصواريخ أيضاً، وقد سقطت على الجزء العسكري من المطار الذي يضم قوات أميركية أيضاً.
رتل شاحنات في جنوب العراق، وعبوة مزروعة على الخط الدولي السريع بين البصرة وذي قار، إضافة إلى غيرها من الهجمات التي تُنفذ على مدار الأسبوع ويجري التكتم عليها وعلى نتائجها.
غير أن تلك الهجمات –لا شك– أعادت إلى الساحة العراقية، وبقوة، الجدل حول ضرورة انسحاب قوات الاحتلال الأميركي من بلاد الرافدين، ولاسيما بعد الهجوم الأخير الذي شنته الولايات المتحدة ضد قوات «الحشد الشعبي» غداة الاستعراض العسكري اللافت الذي نظمه الشهر الماضي، ما اعتُبر ترجمة للغضب الأميركي إزاء الاستعراض المذكور، الذي جاء استتباعاً لسجال طويل من التهديدات المتبادلة بين قادة فصائل «الحشد الشعبي» والقوات الأميركية، وسط انقسام عراقي واضح إزاء الموقف من تلك الهجمات، حتى وإن حضر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي احتفالات الذكرى السنوية السابعة لتأسيس «الحشد الشعبي»، والتي تخللها أول استعراض عسكري للحشد بمشاركة 20 ألف عنصر من الوحدات والألوية التابعة له. وكان لافتاً مشاركة العديد من الآليات والمدرعات والطائرات المسيرة والزوارق المائية السريعة وأنواع الأسلحة المختلفة، بشكل أظهر مدى تطور قدرات «الحشد».
فصائل حشدية تنفي وأخرى تتوعد
الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق»، الشيخ قيس الخزعلي، غرّد معلّقاً على قصف السفارة الأميركية في بغداد بالصواريخ مؤكداً عدم مسؤولية فصائل المقاومة العراقية عن الهجوم، وأن فصائل المقاومة لن تستعمل صواريخ الكاتيوشا المعروفة بعدم إصابتها الدقيقة لأهداف تقع بجوارها مناطق سكنية خصوصاً مع توفر أسلحة دقيقة الإصابة.
وفي السياق، حذّرت كتائب «سيد الشهداء»، من تنفيذ عملية نوعية للثأر من القوات الأميركية، رداً على عملية نفذتها طائرات أميركية مسيرة قبل نحو أسبوعين ضد اللواء الرابع من «الحشد الشعبي» على الحدود السورية العراقية وأدت إلى استشهاد أربعة عناصر منه.
من جهتها، وصفت خلية الإعلام الأمني استهداف السفارة الأميركية بأنه من تنفيذ «مجموعة خارجة عن القانون»، فيما قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس إن الهجمات الأخيرة في العراق تعكس الخطر الذي تمثله الميليشيات المدعومة من إيران على استقرار العراق.
أما قوات الجيش العراقي فطوّقت مكان إطلاق الصواريخ، وأغلقت مداخل المنطقة ومخارجها، وفرضت حظراً للتجوال إلى حين اكتمال التحقيق في الحادث.
الحدود السورية العراقية
على الجانب الآخر من الحدود أيضاً، أي في الجهة السورية، «حقل العمر النفطي» استهدف ثلاث مرات في غضون عشرة أيام، وقد قُرئ ذلك على أنه تنسيق عسكري واضح بين فصائل محور المقاومة على جانبي الحدود العراقية السورية.
من جانبها، تُحمّل واشنطن فصائل المقاومة المدعومة من طهران المسؤولية عن سلسلة هجمات بالطائرات المسيرة تستهدف أفراداً ومنشآت أميركية في سوريا والعراق، فيما تنفي إيران ذلك وبشدة.
لا خطة للانسحاب
وبينما تحرص واشنطن على الاستهداف المستمر لتشكيلات «الحشد الشعبي» بين الفينة والأخرى، بوصفها رسائل لـ«أذرع إيران» بحسب توصيف الإدارة الأميركية، لم يتوانَ رئيس قيادة القوات المركزية، الجنرال كينيث ماكينزي، عن التصريح لوسائل الإعلام، منذ أسابيع خلت، عن أن بلاده لا تملك خطة للانسحاب من العراق، بل أكثر من ذلك، قال القائد العسكري إن بلاده لن تخفض عدد قواتها في العراق بناءً على رغبة الحكومة العراقيّة في بغداد، بل قد تزيدها.
وجاء موقف ماكينزي في إطار المسار الجديد الذي تسلكه إدارة الرئيس جو بايدن في العراق والذي يبدو معاكساً تماماً لسلفه دونالد ترامب الذي حرص في أواخر عهده على سحب أكبر قدر ممكن من الجنود الأميركيين من العراق وسوريا، في إطار مساعيه للانسحاب الكامل من البلدين.
ويأتي الموقف الأميركي من الانسحاب من العراق في الوقت الذي تواصل فيه واشنطن خُطا انسحابها من أفغانستان وفق توجه إدارة ترامب، وإن كان هذا الانسحاب قد يخضع للمراجعة بعد انتشار طالبان سريعاً في مختلف المناطق الأفغانية، وقد باتت الحركة المتشددة تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد.
ذراع إيرانية
«ميليشيا غير منضبطة وخارج سلطة القانون»، هكذا ترى واشنطن «الحشد الشعبي» وتعتبر أن مواجهته تندرج في إطار الحد من مخاطر النفوذ الإيراني في العراق، وهو ما يجعل أي انسحاب قريب أو انكفاء أميركي في بلاد الرافدين، ينظر إليه على أنه هزيمة استراتيجية للولايات المتحدة وانتصار لمحور المقاومة وعلى رأسه إيران.
زعزعة الاستقرار
وفي ظل رفض واشنطن الواضح لفكرة الانسحاب من العراق في الوقت الراهن، لا يختلف اثنان على أن إرباك الساحة العراقية بات الهدف منه مكشوفاً، وهو تمرير فكرة بقاء القوات الأميركية على الأراضي العراقية كحاجة ملحة لتأمين البلاد ومحاربة الإرهاب.
وهذه الذريعة لطالما تلطت وراءها واشنطن كلما أملت عليها مصالحها البقاء في مكان ما، لكن الكرة اليوم في ملعب السياسيين العراقيين، ولا يتطلب الأمر منهم سوى التوحد على مبدأ تحرير البلاد، وهو ما يبدو مستبعداً في ظل الحكومة العراقية الحالية التي يتهمها البعض بالمطالبة بالانسحاب في العلن واستجداء بقاء الأميركيين في السر؟
لكن لا شك أيضاً أن تصاعد الهجمات الأخيرة على القوات الأميركية في بلاد الرافدين، حمل رسالة واضحة مفادها أن أي استهداف للحشد الشعبي لن يمر من دون ردّ، والأيام المقبلة مرشحة للمزيد من التصعيد. فهل تعود فكرة الانسحاب الأميركي إلى الواجهة من الباب العسكري بدلاً من السياسي؟
Leave a Reply