تحول سياسات وإسترتيجيا المنظومة الخليجية.. وتراجع الدور السعودي
تراجع الدور السعودي: إنهيار الثوابت
تعرف بلاد الخليج او ما يعرف بالدول النفطية تحولات عميقة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، لقد تزعزعت المنظومة التي كانت ولسنين عديدة تقود المنطقة بتوازنات كانت المملكة العربىة السعودية اللاعب الاساسي فيها لأسباب عديدة، فـ”الشقيقة الكبرى”، كما يطلق عليها في بلاد الخليج، تعتبر أكبر دولة من حيث المساحة والتعداد السكاني والثروات النفطية، هذا الى جانب كَوْن السعودية هي بلاد الحرمين الشريفين بما لذلك من تأثير ديني وروحي.
ان “الشقيقة الكبرى” كانت دائما ترى ان كل الامارات والمشيخات الخليجية يجب ان تظل تسبح داخل الفلك السعودي، لذلك كانت بلاد الحجاز على مر السنين بمثابة “مطبخ الخليج” الذي كانت تطبخ فيه كل القرارات والسياسات الكبرى التي حددت لعقود عديدة مسار المنظومة الخليجية بل والعربية بأكملها أحياناً.
لقد استطاعت المملكة ان تحافظ لعقود طويلة على تماسك منظومة علاقات دول مجلس التعاون الخليجي داخليا باعتماد علاقات متينة مع الدول العربية الكبرى، مصر والعراق (الى حدود غزو الكويت) وسوريا خاصة، وكذلك ببقية الدول العربية عامة، أما خارجياً فحافظت السعودية على علاقاتها المتينة مع أغلب عواصم القرار العالمية. كانت الأمور تسير على نفس الوتيرة الى حدود السنوات الاخيرة حيث بدأ الدور القطري يتنامى وينافس الدور السعودي بل ويفوقه احيانا، لقد بدأت ثوابت المنظومة الخليجية تتهاوى ولم يبق “للشقيقة الكبرى” نفس النفوذ واصبحت “زعامتها” محل شك.
لم تستسغ “المملكة” تجاوز قطر لدورها خاصة وأن أغلب الساسة السعوديين لم يتخلصوا من التاريخ ولازالوا ينظرون للإمارة القطرية كأحد امتدادات نفوذهم الطبيعة، حتى بعد استقلالها. فالامارة كانت احد المقاطعات السعودية التابعة الى ولاية الاحساء في فترة “الدولة السعودية الأولى” التي تأسست عام 1744 في الدرعية، حيث استطاع الوالي السعودي بالاحساء ابراهيم بن عفيصان ان يغزو قطر ويضمها في عام 1798 ميلادية الى سلطان الدولة السعودية، ولم تتحرر قطر الا بعد سقوط الدرعية وانهيار الدولة السعودية الاولى سنة 1818 إثر الحملة المصرية التي سيرها السلطان العثماني الى المنطقة بقيادة ابراهيم باشا والتي قضت على “الدولة السعودية الاولى”.
صعود قطر: دور السلف إفتكّه “خلف”
كان من “المنطقي”، أو من المفترض، اذا تقهقر الدور السعودي بالمنطقة الخليجية ولأي سبب كان، ان يضطلع بهذا الدور ويخلفه خليجيا دولة مثل عُمان أو الكويت أو حتى الإمارات لأسباب موضوعية، منها عدد السكان، المساحة والتاريخ الى جانب ان تلك الدول لعبت ادوارا سياسية مهمة في مراحل كثيرة من تاريخ المنطقة، إلاّ ان “خلفاً” آخر وغير منتظر أطل برأسه ليقتنص الفرصة ويتقدمهم جميعا، إنّها قطر.
لقد ظهرت بوادر “التمرد” وبروز الطموح القطري لمّا بدأت الامارة بالمطالبة، بان تكون رئاسة بعض المنظمات الخليجية، بالتناوب بين أعضاء مجلس التعاون، ورفضت حصرها في شخصيات سعودية، مثلما هو الشأن دائما، سواء كانت تلك المنظمات سياسية أو أهلية أو فكرية أو حتى رياضية، وإن وقع تطويق معظم تلك الخلافات بين الشقيقتين، فإن ذلك كان بمثابة إعلان لميلاد منافس جديد وجدّي للسعودية على زعامة المنطقة الخليجية، وربما العربية.
بدأت سياسة سحب البساط القطرية من تحت أقدام النفوذ السعودي بتدشين دبلوماسية “سياسة الوساطة” في مناطق ساخنة كثيرة من العالم كالسودان ولبنان وفلسطين كما لعبت دور الوسيط بين إيران وسوريا من جهة، ودول الخليج من جهة أخرى.
كانت قطر في سياستها تلك تتحرك من خارج المنظومة الخليجية، لقد حرصت الإمارة أن تُظهر للجميع تفرّدها في كل تحركاتها حتى تؤكد أنها تجاوزت في قراراتها “وصاية” الشقيقة الكبرى، وأنها بلغت “سن الرشد” لتخط لنفسها سياسة خاصة بها. لكن هناك سؤالا كان يتردد دائماً، كلما بدأ الحديث عن الدور القطري وتأثيراته وعلاقته بالتحولات التي تشهدها منطقة دول الخليج، هذا السؤال هو: لماذا بدأ الدور السعودي في الإنحسار؟ ولماذا تعاظم الدور القطري حتى أصبحت الإمارة الصغيرة قائدة فعلياً لمنطقة الخليج وزعيمة محتملة للعالم العربي؟
وما هي العوامل والمرتكزات التي ساعدت الدور القطري ليتنامى بهذه السرعة والحجم؟
المال قوام الاعمال: الثروة في خدمة السياسة
كان معاش أهل قطر، قديماً، قائماً، ككل دول الخليج، على الصيد وتجارة اللؤلؤ، لكن الدولة عرفت طفرة هامة في اقتصادها بإكتشاف النفط وكان حفر أول بئر نفطية في العام 1938، وازدادت اهمية الإمارة في الاستراتيجيا الدولية بعد اكتشافات السنوات الأخيرة لكميات هائلة من الغاز الطبيعي الذي حوّل الدولة الى أحد عمالقة منتجي هذه المادة الهامة والحيوية للاقتصاد العالمي. ورغم الأزمة العالمية الخانقة التي يعيشها الاقتصادي العالمي وتراجع اسعار النفط، فإن هذه الدولة لازالت تتمتع بإحتياطي مالي هام نتيجة مداخيل الغاز التي مكنتها من بناء شبكة استثمارات دولية عملاقة. قطر التي تمتلك أكبر حقل غاز منفرد، وثاني أكبر احتياطي غاز في العالم، أرادت ان تكون لاعباً أساسياً في سياسة المنطقة كترجمة للثقل المالي الذي أصبحت تمثله.
كانت الدولة تتوجّس من جيرانها الخليجيين، الذين لم يستسيغوا الطريقة التي إعتلى بها الامير الحالي سدّة حكم الامارة في إنقلاب أبيض على والده، فقد كانت المنظومة الخليجية التي كانت تقودها السعودية تعتمد على ثوابت في طريقة توارث الحكم تقوم على التوافق والبيعة وكانت تخشى أن يتحول النموذج القطري أسلوبا قد يحتذى في المنطقة مما قد يثير القلاقل وعدم الاستقرار. سعت الامارة الى تحصين نفسها داخليا ببناء شبكة من الاصدقاء من خارج المنظومة الخليجية وجلبهم لتركيز مشاريع عبر الصفقات والاستثمارات بالامارة. وحسب مراقبين، لعب المال دورا هاما في شراء ولاءات عربية وحتى خليجية فقد اتهمت دوائر كويتية قطر برشوة نواب بهدف التدخل في سياسة الكويت، كما دشنت قطر حملة إعلامية لتأكيد صحة سياساتها الداخلية تحت عنوان التحديث مع التحرك خارجيا بتركيز شبكة من المراكز، التي يرأسها كوادر من العرب والأجانب والتابعة لإمارة قطر، لتقوم بحملات للدعاية والتلميع وتقديم قطر كنموذج رائد بالمنطقة، خاصة بعد تناقص الدور السعودي وتراجعه، نتيجة تراجع تأثيرها الاقتصادي بتراجع اسعار النفط، وتزايد حاجات المجتمع السعودي المتنامي ديمغرافياً بأكثر من 27 مليون نسمة واستنزافه لمدخرات الدولة، ثم انشغال المملكة بترتيب بيتها الداخلي أثر المشاكل الصحية للصف الاول من أمراء المملكة.
إمبراطورية إعلامية: السُم في الدسم
لم يكن للاسترتيجية القطرية ان تنجح لولا الدور الهام والمحوري الذي لعبه الاعلام القطري، وخاصة قناة “الجزيرة” التلفزيونية، فقد كان من اهم الخطوات التي قام بها امير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أنه اصدر في العام 2009 قرارا قضى بإنشاء “المؤسسة القطرية للاعلام” لتجمع تحت سلطتها كل أجهزة الإعلام في الامارة وخصصت لها ميزانية ضخمة واستقدمت أبرز الكفاءات التقنية والكوادر الإعلامية في مختلف مجالات الإعلام.
وقد حققت قناة “الجزيرة” وبقية القنوات القطرية المتعددة، والمتخصصة سبقا في المجال الاعلامي العربي، واعطت في البداية مساحة من الحرية التي كانت اغلب الشعوب العربية المقموعة في اشد الحاجة اليها، كما ركزت على اهم القضايا العربية المحورية والجوهرية مما شد اليها قطاعات واسعة من المجتمع ثم لتنتقل بعد ذلك، من مرحلة كسب الثقة الى مرحلة “غسل العقول”. وبعد سياسة الحياد والاستقلالية التي اعتمدتها “الجزيرة” في بداياتها، بدأت القناة القطرية لعبة المحاور والدعاية الموجهة والمساهمة في اشعال الفتن وتجميل القتل وتبرير الاعتداء والدعاية للحروب، وفق اجندات داخلية وخارجية، وبعد ان كانت عاملا للتوحد والاجماع صارت عاملا للفرقة والتشرذم، وقد تشهد الفترة القادمة مزيدا من عزوف شعوب المنطقة عن متابعة الاعلام القطري الذي تبين أنه كالسراب في صحراء العرب الاعلامية، اذا جاءه الظمأن لم يجد شيئا.
عكـاز الدين
يمثل الإسلام احد اهم مقومات الشخصيات الخليجية والعربية، ولم تغفل الاستراتيجيا القطرية عن هذه النقطة، وذلك لدغدغة مشاعر الناس وتوجيههم عبر الفتوى الشرعية إما الى حيث تريد السياسة أو الى تبرير ما فعلته السياسة وصبغه بلبوس الدين. وقد سعت قطر الى استقطاب شخصيات دينية هامة كالشيخ يوسف القرضاوي، وغيره وفتحت لهم المنابر حتى تكسب بهم حب الناس وتجعل منهم عكازاً تتكئ عليه، فتظهر أمام المسلمين كحامي للدين.
كانت قطر تدرك، وهي التي ترنو الى تبوّء مكان السعودية في قيادة المنطقة، انه لا مناص لها من سحب تلك الشرعية الدينية التي تحظى بها المملكة، حتى تستطيع ان تتحرك بكل حرية، وتحسبا كذلك من إمكانية استعمال السعودية للجماعات الدينية والتقليدية كورقة ضغط ضدها، شرعت قطر مؤخراً في بناء وتمتين الصداقات مع الزعامات الاسلامية في طول البلاد العربية وعرضها. وحسب ملاحظين، سعت عبر المال لإستئلاف التيارات التي فازت في الانتخابات العربية او التي هي بصددها والتي قد يكون لها دور في قادم الايام، خاصة من الاحزاب العربية التابعة فكريا للاخوان المسلمين، فأُستدعيت القيادات الإسلامية وتم تبادل الزيارات بين قطر والتيارات الإسلامية، وفتحت المنابر للخطباء.. غير ان قطر التي تدرك أن أغلب بلدان الخليج يغلب عليها المذهب الوهابي، سارعت الى اظهار اهتمامها بـ”الوهابية”، حيث اطلق الامير حمد بن خليفة آل ثاني، خلال الشهر الجاري، اسم مؤسس التيار الوهابي، محمد بن عبد الوهاب، على أكبر مسجد في الدوحة بمساحة 175 ألف متر مربع.
وفي الافتتاح اشار الامير الى تتلمذ جده الشيخ جاسم على يد محمد بن عبدالوهاب ونشره لمذهبه في قطر وخارجها، وهي بمثابة رسالة بعث بها أمير قطر الى تيارات وزعامات وقواعد السلفية خاصة في مصر والسعودية مفادها: أبشروا قد قام بيت آخر لكم. كما ان تركيز الاعلام القطري على أصل بن عبد الوهاب “التميمي”، وهو نفس اصل امراء قطر مما قد يوحي بأنها رسائل مشفرة الى ساسة السعودية بأن قطر “تسترجع” ثقافتها وأصولها أو قد تكون رسالة لكل دول الخليج التي تنتشر في معظمها قبائل بني تميم بأن لقطر بني عمومة وتمدد داخل بلدانهم وعصبية قبلية يمكن تحريكها في أيّ وقت، كما أنّها غمزة بأن قطر اكبر من محيطها الجغرافي الحالي، وأن كل الخليج مجالها إيذاناً لبدء عهد جديد في المنطقة بزعامتها.
لقد استطاعت امارة قطر وفي ظل ظروف اقتصادية وسياسية مؤاتية ان تتخطى عوائق التاريخ والديمغرافيا والجغرافيا لتبني لنفسها مكانا هاما في استرتيجيا المنطقة العربية وان تتطلع على خلاف كل المقاييس الى الزعامة، وقد استطاعت ان تنجح فعلا، لكن الى حين، لأن سياستها تحمل في طياتها بذور فنائها.
Leave a Reply