فريق «14 آذار» انكشف أمام المجتمع الدولي بتغطيته للتطرف فـي معركته الداخلية
القوات السورية لن تعود الى بيروت وتحرّكها على الحدود لحماية داخلها
بعدما خرجت القوات السورية من لبنان في 26 نيسان 2005، وبقرار من الرئيس بشار الأسد اتخذه في 5 آذار من ذلك العام، وأقره المجلس الأعلى اللبناني-السوري الذي جمع كلاً من رئيسي البلدين الأسد وإميل لحود ورئيسي الحكومة محمد ناجي العطري وعمر كرامي، ورئيسي مجلس الشعب السوري محمود الأبرش ومجلس النواب اللبناني نبيه بري، ذهب موفد الأمم المتحدة لتطبيق القرار 1559 تيري رود لارسن إلى دمشق ليبحث مع المسؤولين السوريين، بعد تطبيق الشق في القرارالمتعلق بانسحاب القوات السورية، المساعدة في تنفيذ ما بقي من بنود، لا سيما المتصل بسلاح الميلشيات، فردت القيادة السورية عليه بأن ذلك يتطلب إرسال 60 ألف جندي سوري على الأقل للقيام بهذه المهمة، فاستغرب لارسن الجواب، وخرج من لقاءاته صامتاً ونادماً على تلك اللحظة التي عمل فيها على إصدار القرار 1559 عن مجلس الأمن، الذي لن ينفذ في ما يتعلق بسلاح «حزب الله»، وهو المقصود من كل القرار، لأن أسهل شيء فيه هو تطبيقه لجهة انسحاب الجيش السوري، وهذا ما قاله الرئيس الأسد للموفدين الدوليين.
وسوريا رفضت كل الضغوط عليها من أجل نزع سلاح المقاومة في لبنان، أو وقف دعمها السياسي لحركة «حماس» واحتضانها لها ولمنظمات فلسطينية مقاومة أخرى، أو الوقوف ضد المقاومة في العراق، وهي لم تستجب لكل الشروط والمطالب الأميركية، لا سيما تلك التي حملها إليها وزير الدفاع كولن باول، بعد الاحتلال الأميركي للعراق في أيار 2003، للتصدي للمقاومة العراقية، وطرد «حماس» من سوريا، وإقفال الحدود أمام تدفق السلاح لـ«حزب الله»، واستمر «الكباش الأميركي-السوري» سنتين، ولم تغير سوريا سلوكها في دعم المقاومة، وجاءها مساعد وزير الخارجية الأميركية ريتشارد أرميتاج في كانون الثاني 2005، وقبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحاول مقايضة القيادة السورية ببقاء قواتها في لبنان، مقابل تنفيذ الشروط الأميركية بتحول سوريا إلى «دولة غير داعمة للإرهاب» بالمفهوم الأميركي، وللمقاومة بالمفهوم الوطني والقومي، إلا أن سوريا لم ترضخ لهذا الابتزاز، فكانت جريمة مقتل الحريري، وما تبعها من تحركات كانت معدة سلفاً وتحت اسم «ثورة الأرز»، التي رفعت فوراً شعارات تتهم النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك بتدبير الحادثة، وتطالب بسحب القوات السورية، فتلقت سوريا الرسالة فوراً، وبعد أسبوعين صدر قرار الرئيس الأسد بالانسحاب، وكان مفاجئاً للإدارة الأميركية التي كانت تحاول أن تساوم على الوجود السوري في لبنان مقابل حفظ وحماية جنودها في العراق، لكنها جوبهت بالرفض، واستُخدم التحقيق الدولي باغتيال الحريري ضد القيادة السورية وجرى تسييسه، وصدرت قرارات عن مجلس الأمن الدولي تحاصر سوريا سياسياً ودبلوماسياً ومالياً، لكنها صمدت في وجه كل الضغوطات، إلى أن حصل العدوان الإسرائيلي في صيف 2006 على لبنان، وصمدت فيه المقاومة وأفشلت مخطط العدو وهزمته وانتصرت عليه، وبدأ العد العكسي لسقوط المشروع الأميركي «للشرق الأوسط الجديد» في المنطقة، الذي كان سيبنى ويقوم على دماء اللبنانيين.
فالبند الثاني من القرار 1559 المتعلق بسلاح المقاومة الذي يصفها بالميلشيا لم تتمكن إسرائيل من تنفيذه بالحديد والنار، فانقلبت موازين القوى لبنانياً، وباتت المعارضة في موقع الهجوم، ولم يعد أمامها سوى الإمساك بالقرار من داخل الحكومة عبر الثلث الضامن، بعدما تبين لها تواطؤ قوى 14 شباط مع المخططين والمنفذين للعدوان من أميركيين وأوروبيين وإسرائيليين و«عرب اعتدال».
وهكذا بدأ العد العكسي في لبنان، وأثبتت المقاومة جدواها ولم يعد أحد يتنكر لها، لكن وُضع في مواجهتها التحريض المذهبي، واستنفار الحالة المذهبية، وإيقاظ الحالة الأصولية، واستُفيد من تحرك المعارضة واعتصامها قرب مقر رئيس الحكومة (السرايا) في ساحة رياض الصلح، في أول كانون الأول 2006، فجرى تصوير الوضع وكأنه «احتلال شيعي لبيروت السنية»، لأن «حزب الله» وحركة «أمل» كانا يمثلان ثقلاً في المعارضة التي كانت تضم كل الطوائف والمذاهب والأحزاب بمختلف تلاوينها السياسية، وحضر مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني إلى السرايا للدفاع عن رئيس الحكومة السني، وعن الموقع السني في السلطة، واتصل العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، محذراً من سقوط الحكومة بيد «حزب الله» وبالتالي هيمنة إيران وسوريا على لبنان، أو فرض سيطرة شيعية على العاصمة، ووضع كل ثقله لتأمين دعم بقاء السنيورة واستمراره، فرسمت خطوط حمراء أمام المعارضة عربياً وإقليمياً ودولياً كي لا تقتحم السرايا، وبقي الاعتصام سلمياً عاماً ونصف عام إلى أن حسمت أحداث 7 أيار الماضي الوضع عسكرياً، وخضعت الأكثرية لمطالب المعارضة في اتفاق الدوحة.
وفي ظل هذه الأجواء المذهبية، حضرت الأصولية، وظهر تنظيم «القاعدة» في لبنان، بعد عدوان تموز لمقاتلة «القوات الدولية»، وتحويل لبنان إلى «أرض جهاد» لطرد «القوات الصليبية» كما يسميها، لأنها تقف حائلاً دون مقاتلة اليهود والوصول إلى فلسطين، وكان لافتاً الرسالة التي أعلنها الرجل الثاني في «القاعدة» أيمن الظواهري بهذا الخصوص، حيث تزامنت إذاعتها، مع الإعلان عن وجود حركة «فتح الإسلام» التي يترأسها شاكر العبسي الذي كان في حركة «فتح-الانتفاضة»، في مخيمي برج البراجنة وشاتيلا القريبين من الضاحية الجنوبية حيث مقر قيادة المقاومة. وهذه المجموعة التي تسللت إلى لبنان، رفعت شعارات متعددة أبرزها: قتال الشيعة (الرافضة) وهو ما كان يفعله أبو مصعب الزرقاوي في العراق، ويقال إن العبسي عمل معه وكان من مساعديه، إلى مواجهة القوات الصليبية، إلى مقاتلة إسرائيل والتوجه نحو فلسطين من جنوب لبنان.
وكانت المرة الأولى التي يظهر فيها تنظيم «القاعدة» بهذا الشكل العلني، بعدما اتخذ له أسماء فصائل متعددة مثل «عصبة الأنصار» «وجند الشام» في مخيم عين الحلوة، إلى «جماعة التكفير والهجرة» التي قاتلت الجيش في جرود الضنية مطلع عام 2000، إلى مجموعة زمجدل عنجرس، وكل هذه الجماعات كانت ترسل مقاتلين إلى العراق، ومنهم من قاتل في أفغانستان، حيث كشفت التحقيقات الأمنية والقضائية اللبنانية، عن انتماء أعضائها إلى الفكر الإسلامي المتطرف الذي يدعو إلى الجهاد بوسائل عسكرية وعنفية.
وحاولت قوى 14 شباط، لا سيما «تيار المستقبل»، الاستفادة من هذه الجماعات الأصولية المتطرفة لتهدد بها «حزب الله»، وأن لدى السنّة قوة قادرة أن تحافظ على وجودها وتحميها من خطر «التشيع» ومن إقامة ما يسمى بـ«الهلال الشيعي» كما أعلن الملك الأردني عبد الله الثاني، أو كما أشار الرئيس المصري حسني مبارك إلى أن انتماء الشيعة ليس لأوطانهم، وكان يقصد أن ولاءهم هو لإيران، صاحبة «المشروع الامبراطوري الفارسي» الذي يمثّل خطراً على العرب، وكانت أميركا تحرّض عليه بعض الدول العربية وتحديداً الخليجية منها، وكانت تلقى لها الصدى في لبنان، من خلال ترديد جماعات 14 شباط، مقولة «الخطر الإيراني والمشروع الفارسي للمنطقة»، وبدأ تحويل الصراع من عربي-إسرائيلي إلى عربي-إيراني (فارسي) وبتمويل خليجي، وتحديداً سعودي، ودعم أميركي.
إلا أن نتائج هذه التعبئة السياسية والمذهبية ارتدت على أصحابها، فتحوّل لبنان إلى أرض خصبة لنمو الفكر الأصولي الإسلامي، وإلى بروز تنظيمات سلفية تدين بالولاء «للقاعدة» التي قررت نقل المعركة من العراق ودول أخرى إلى لبنان خصوصاً وبلاد الشام عموماً، بعدما بدأ التضييق عليها في بلاد الرافدين، وتشديد سوريا الرقابة على حدودها مع العراق، وبدأ نقل زالمجاهدينس إلى المخيمات الفلسطينية وبعض المناطق السنية، وبغض نظر بعض الأجهزة الأمنية اللبنانية الرسمية، إذ تحدثت التقارير عن دعم سعودي لوصول «الإسلاميين المتطرفين» لمواجهة «حزب الله»، حيث تبين أن هناك عدداً لا بأس به منهم يحمل الجنسية السعودية، إضافة إلى جنسيات عربية وأجنبية.
وبالرغم من نفي حكومة السنيورة السابقة وقوى 14 شباط، وجود «القاعدة» في لبنان وتحويله إلى «أرض جهاد»، وربط الاغتيالات والتفجيرات بسوريا وجهازها المخابراتي بالتعاون مع أطراف سياسية وحزبية لبنانية، إلا أن الدول الأوروبية أدركت خطورة الوضع في لبنان بعدما استهدف تفجير «القوات الإسبانية» العاملة في الطوارئ الدولية في سهل الخيام وأدى إلى مقتل سبعة من جنودها، وإلقاء القبض على المجرمين، وبينت التحقيقات عن ارتباطهم بالقاعدة»، مما عزز لديهم الحذر والقلق على وجود قواتهم في الجنوب بعدما استهدفتها أربعة انفجارات، كما زاد من خوفهم ما حصل في مخيم نهر البارد من معارك بين الجيش و«فتح الإسلام»، استمرت ثلاثة أشهر سقط فيها للجيش 170 شهيداً بين ضابط وجندي، وما رافق ذلك من تداعيات تمثلت باغتيال مدير العمليات في الجيش اللواء فرنسوا الحاج، ثم أحد ضباط فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي البارزين النقيب وسام عيد، واستهداف باصين للجيش في طرابلس خلال شهر بعبوتين سقط فيهما أكثر من 20 شهيداً وعشرات الجرحى. كل هذه التطورات والحوادث الأمنية، فتحت الأعين الأوروبية أمام ما يحصل في لبنان وتمركز القاعدة فيه، وأن فريق 14 شباط كان يمد حلفاءه الغربيين بمعلومات خاطئة من أن سوريا هي وراء التخريب الأمني، دون ذكر للتنظيمات الأصولية التي اعتقلت الأجهزة الأمنية العشرات منها، واعترفوا أمام القضاء بمسؤوليتهم عن بعض الاغتيالات والتفجيرات.
لذلك توجهت الأنظار إلى سوريا للوقوف منها على حقيقة ما يجري في لبنان كما في المنطقة كلها، وهذا ما أكد عليه تقرير لجنة بايكر هاميلتون، الذي طالب الإدارة الأميركية بالحوار مع سوريا وإيران، وكذلك فعل أيضاً خمسة وزراء خارجية مارسوا مهامهم في إدارات أميركية ديموقراطية وجمهورية، توصلوا إلى استنتاج أن لا استقرار في المنطقة من دون المرور بسوريا، التي ساهمت في تقديم كل التسهيلات لحل الأزمة اللبنانية واستعادة المؤسسات الدستورية دورها وتعزيز دور الجيش اللبناني، وهو ما انتهى إليه اتفاق الدوحة الذي حظي بتأييد عربي وإقليمي ودولي.
فسوريا أظهرت من خلال سلوكها أنها مع وحدة لبنان وسلمه الأهلي، وأن من يتهمها بأنها تدعم «الإرهاب» كان خاطئاً، لأنها هي من تعرض لهذا «الإرهاب» الذي وصل إليها، وتصاعد هذا العام، فكان لا بدّ من أن تتحرك للتصدي له، وهو ما كان مدار بحث بين الرئيسين اللبناني والسوري في أول قمة عقدت بينهما في 13 آب الماضي بعد انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، الذي تلقى دعماً قوياً من الرئيس الأسد لتعزيز الجيش في الشمال لمواجهة خطر الأصولية الإسلامية التي حوّلت هذه المنطقة إلى مواقع متقدمة لتنطلق منها عمليات إجرامية في لبنان وسوريا، التي تعرضت إلى تفجير في أحد أحياء عاصمتها، تبين أن وراءه «جماعة تكفيرية»، وهو ما عزز التعاون الدولي مع سوريا لمواجهة الإرهاب، الذي كانت متهمة بأنها تدعمه، وأكدت الوقائع أنها أول من واجهته في الثمانينيات، عندما كان مدعوماً من الغرب وبعض الدول العربية، وطرح الرئيس حافظ الأسد في حينه، فكرة عقد مؤتمر دولي لتحديد الإرهاب وتمييزه عن المقاومة التي كانت تدعمها سوريا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان وتقاتل الإرهاب الذي جاءت حوادث 11 أيلول في الولايات المتحدة لتؤكد صحة ما تطرحه سوريا التي تعاونت مع المجتمع الدولي في ملاحقة خلايا إرهابية نائمة وغير نائمة، وهو ما أكد على دورها في محاربة «الإرهاب» لا دعمه كما تزعم واشنطن وبعض حلفائها، وبدأ الأوروبيون يتطلعون بثقة إلى سوريا التي أظهرت الممارسات أن سلوكها كان صحيحاً، وأن على الدول الأخرى أن تغير من سلوكها تجاهها، وأن من دعمتهم أميركا كفريق في لبنان، عزز وجود التنظيمات الأصولية ورعايته لها، وهذا يمثّل خطراً على وجود القوات الدولية، كما على الحضور الغربي في لبنان، حيث تأكد للعواصم الأوروبية من خلال التقارير التي تلقتها من بعثاتها عن وجود كثيف لخلايا القاعدة يقدر بحوالى 4500 عنصر، وقد يحول لبنان إلى عراق جديد أي يدخله في «العرقنة».
لذلك تحركت سوريا لتعزيز وجودها العسكري والأمني على الحدود من أجل منع التهريب وتسلل عناصر معادية، وقامت بهذه الخطوة بالتنسيق مع الجيش اللبناني الذي أعلن عبر بيان له، عن تبلغه رسمياً من سوريا عن الغاية من تحريك قواتها، إلا أن فريق 41 شباط أراد استغلال هذا الموضوع وإثارته دولياً، على أنه محاولة سورية للدخول من جديد إلى لبنان، وهذا ما نفاه أكثر من مسؤول سوري، لا سيما الاتصال الذي جرى بين الرئيسين الأسد وسليمان وجرى خلاله التأكيد على أنه ليس بوارد سوريا عودة قواتها إلى لبنان وأن لا مصلحة لها بذلك، وهي تريد حماية أمنها القومي، لأن هناك دولاً قررت محاربتها من لبنان وزعزعة الاستقرار فيها والضغط على الحكم داخلها، وأن المسؤولين السوريين يتحدثون بشكل صريح عن دور سعودي يقوم به رئيس مجلس الأمن الوطني بندر بن سلطان، بالتعاون مع «تيار المستقبل» في لبنان، ومعارضين سوريين، لزعزعة الأمن في سوريا.
من هنا فإن سوريا لن تكرر خطأ صدام حسين عندما دخل إلى الكويت بالعودة إلى لبنان، ووضعها في مواجهة الطائفة السنية في الشمال، لينعكس ذلك عليها سلبيا في داخلها، وإن القيادة السورية صاحبة حكمة، وتدرس الأمور بعناية وتقرأ التطورات العربية والإقليمية والدولية، وإن قرار دخولها إلى لبنان لمحاربة الإرهاب، لن يكون إلا قراراً عربياً ودولياً، لعدم جرها إلى المستنقع اللبناني، وهي التي خرجت منه بقرار ذاتي اتخذه الرئيس الأسد عندما شعر بأن هناك من يريد توريطه في لبنان، وهو لن يفعل ذلك أو ينجرّ إليه، وأن من شجع على قيام التنظيمات الأصولية وحمايتها وشحنها فكرياً ومالياً، عليه أن يقاومها، أما إذا ظن البعض أن القوات السورية تعود إلى لبنان، من أجل نزع سلاح المقاومة فهو مخطئ كما يقول مسؤول سوري رفيع، ويشير إلى أنه لو أرادت سوريا أن تقوم بذلك لفعلت ولم تخرج من لبنان.
Leave a Reply