لقد عاش المسيحيون في الموصل مدة ألفي سنة، منذ فجر المسيحية. جيوش غزت المنطقة ثم اندحرتْ. شُنَّت حروب وسقطت أنظمة وانهارت كيانات، لكنهم بقوا صامدين في مدنهم وقراهم وبيوتهم وظلت أجراس كنائسهم تقرع رنين التنوع في بلاد ما بين النهرين مهد الحضارة.
ولكن على مدى الأسابيع القليلة الماضية، تمكنت عصابة من المجرمين القتلة التي تطلق على نفسها إسم «الدولة الإسلامية» من إخراجهم بالكامل من منازلهم وتشريدهم وقتل بعضهم. وعلى الرغم من أن العالم كله يصنف مضطهِدي المسيحيين في الموصل بأنهم إرهابيون، لم يفعل أحد أي شيء ملموس لمساعدتهم.
العالم الأخرس يراقب في صمت يصم الآذان بينما بعض الدول الغربية عرضت اللجوء على المسيحيين، مما يساعد بشكل مريب حملة التطهير الدينية التي ينفذها الإرهابيون.
والحق يقال أنَّ صعود «الدولة الإسلامية»، التي كانت تعرف سابقاً بإسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» قبل إقامة «الخلافة» في الشهر الماضي، هو أمرٌ محير فعلاً. وبوجود الآلاف من المقاتلين الذين يملكون الأسلحة المتقدمة، تسيطر «الدولة» حالياً على معظم منطقة شرق سوريا وشمال غرب العراق، واللغز الأكبر هنا هو كيف تستحوذ «الدولة الإسلامية» هذه على المال والسلاح لمقاتليها؟ ولكن ليس هناك أدنى شك في أن المنظمة، التي ولدت من رحم تنظيم «القاعدة» في بلاد ما بين النهرين، لديها داعموها الإقليميون عدا عن الداعمين الدوليين الذين يشاركونها أهدافها التي تصبو إلى إخماد توق الجماهير العربية من أجل التقدم والتحرر وإلى تفتيت المنطقة.
الإبادة الجماعيةللمسيحيين في العراق وسوريا، وسط صمت العالم، هو مؤشر واضح على أن أعداء العالم العربي يفضلون الفوضى الرجعية على مجتمع مستقر في بلاد الشام.
لقد قاد المسيحيون نهضة عربية نيرة في مطلع القرن الماضي. وولد الأدب العربي الحديث نتيجة أقلام كتاب وأدباء مسيحيين طارت شهرتهم في الآفاق من جبران خليل جبران إلى الأب أنستاس الكرملي وسركون بولص. وغالباً ما تُنسب جذور العروبة لكتابات صاحب روايات تاريخ الإسلام لجرجي زيدان المسيحي بالإضافة إلى اليوازجة والبساتنة في لبنان الذين أبدعوا وحفظوا اللغة العربية والتراث العربي.
وسبق وجود المسيحيين العرب، الإسلام في العالم العربي حيث عاشوا جنباً إلى جنب أكثر من ألف عام في المجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية وفي ظل الخلافة الإسلامية المتعددة. أما إرهابيو «الدولة الإسلامية»، التي تعتنق أيديولوجية تطبيق النصوص الدينية تحريفاً واتباع سوابق في الأحكام الدينية، فتقوم بارتكاب جريمة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي من خلال استهداف المسيحيين بشكل منهجي وإجرامي.
لكن تجريد العالم العربي من تنوعه لا يفيد إلا خصومه فقط. ولو أصبح العراق وسوريا ولبنان ومصر دولاً إسلامية بحتة، سيمنح هذا إسرائيل المبرِّر لبناء دولة يهودية دينية صرفة.
إنَّ التاريخ، وهو الحاكم العدل، وحملات وسائل التواصل الإعلامي والاجتماعي بالإضافة إلى تضحيات المسلمين الذين قُتلوا على يد عصابات «الدولة الإسلامية» بينما كانوا يحاولون الدفاع عن جيرانهم المسيحيين أدلة على أن الدين الإسلامي لا يوافق على ما قام به هؤلاء الإرهابيون في الموصل.
وسواء عن طريق الصدفة أو التصميم، فإنَّ العرب وطموحاتهم لبناء دول وديمقراطيات حديثة هي الإستهداف النهائية لإرهاب «الدولة الإسلامية». إنَّ الاسلام يدعو إلى الاعتدال والوسطية والعقل وهو براءٌ من هدر الدماء البريئة وسط صيحات «الله أكبر» ومنع التعرُّض للأديان الأخرى وهذا يفسِّر وجود اليهود الذين كانوا يعيشون بسلام مع جيرانهم المسلمين والمسيحيين لآلاف السنين ويأتمنونهم على أولادهم قبل زرع إسرائيل في قلب المنطقة الوحيدة التي لم يتعرضوا فيها للاضطهاد والقتل من باقي دول العالم الغربي. كم من الجرائم تُرتكب بإسم الدين؟ وبالرغم من أن هذه الظاهرة ليست فريدةً من نوعها إلاَّ أنَّ جرائم التطهير الديني التي يقوم بها الإرهابيون التكفيريون في العراق هي الأخطر في التاريخ على الإطلاق.
«صدى الوطن»
Leave a Reply