الخضراء المتشائلة: أسمع كلامك أصدقك..
يعيش الشارع التونسي حالة من اللاوضوح في الرؤيا ولّدت حالات شعورية ونفسية متناقضة فتارة تتوسع دائرة القلق والتوجس فتلف الضبابية المشهد السياسي وطورا يكثر الحديث عن الأمل فيغلب التفاؤل بالمستقبل. ويمكن أن نرد أسباب هذا التخبط إلى حالة عدم الإستقرار والتغيرات الفجائية في الأوضاع التي تعيشها البلاد، فمرة يخرج الساسة والمحللون فيبعثون الأمل عبر حديث عن تطور النمو الإقتصادي وعن تفاؤل دوائر الأعمال الداخلية والخارجية، وعن إستئناف المصانع والموانيء لعملها بطاقتها العادية نتيجة إستقرار الأمن وتوافق الحكومة والنقابات على توقف الإضرابات والإعتصامات، ومرة أخرى تدخل البلاد في «حيص بيص» مع تزايد الحديث عن تدهور الحالة الأمنية في بعض المحافظات وإكتشاف مخازن للسلاح أو دخول جماعات عبر الحدود للقيام بعمليات إرهابية ضد هذه الجهة أو تلك.
تَسَيّدَ الخوف الموقف بعد أن ظن الجميع أنّ الثورة ضد أكبر الدكتاتوريات المتمثلة في نظام بن علي قد كسرت حاجز الخوف إلى الأبد، ويطفو سؤال حارق لماذا لا زال التونسي يشعر بالخوف لحدّ اللحظة؟. يعيش التونسي الآن حالة من عدم وضوح الرؤيا ، ففي السابق كان العدو معروفا للجميع أمّا الآن فالعدو حاضر في الساحة لكن لا ملامح ثابتة له فهو إمّا عدوّ من الداخل يعمل لحسابه أو هو عدوّ مرتبط بأجندات خارجية يعمل لحسابها أوهو عدوّ من الخارج له مصالح ما في تونس ويعمل عبر أطراف غير تونسية ، إنه في كل الحالات عدوّ مجهول بل هو في تخفيه فاق بطل الأسطورة علي الزيبق.
تتميز المرحلة الحالية بحالة من الجمود الإقتصادي وتباطؤ عمل الحكومة وتزايد الإنفلاتات الأمنية التي بلغت حدّ إغتيال السياسي بلعيد، هذا إلى جانب تصدُّع الموقف بين رئيس الحكومة السابق الجبالي وأغلب الترويكا الحاكمة، كلّ ذلك زاد في هروب الشركات الإستثمارية الأجنبية وتوقف إنتاج الشركات المحلية نتيجة الإضرابات المتواصلة وتدهور السياحة ممّا أضاف إلى أعداد العاطلين أعدادأ جديدة ممّا كثّف الضغط على المواطن وساهم في تفشي ظاهرة التشنجات النفسية التي وصل بعضها إلى حالات إكتئاب.
لا يمكن للخضراء أن تخرج من تشاؤلها إلى تفاؤلها إلاّ إذا أدرك القائمون على الشأن السياسي والشأن العام أنّ البلد «غُلِبْ حمارو» وعلى الجميع نبذ المصلحية الضيقة والحزبية والشخصية والقوالب الإيديولوجية التي لم تزد الساحة إلاّ تمزقا وتشتتا، والعودة إلى المصالح العليا للوطن والمواطن اللذين سُحقا منذ قيام دولة الإستقلال الأولى، مع الأمل في أن تعيد الثورة للمواطن التونسي كثيراً من حقوقه الإقتصادية وكلّ حقوقه السياسية والإنسانية.
قلق شبابي: رقّصنـي
ما يعتمل داخل الساحة السياسية أثّر على الحياة العامة للناس وعلى معيشتهم وجعل القلق خبزهم اليومي ثم تسرّب ذلك القلق إلى الأبناء والبنات وإلى قطاع الشباب وأجيال المستقبل الذين غنوا وتغنوا بالثورة ورقصوا لها وهم كلّهم أمل في أن يكون غدهم مع الثورة أفضل من مصير أجيال سبقتهم تحطّمت آمالها في ظل حكم بن علي. مرت أيام وشهور على الثورة ثم مرت سنة ثم سنتان والأمور مازالت تراوح مكانها، إنقسم الشارع بين الباحث عن شغل أوحلّ لمشاكله الإقتصادية وبين الباحث عن الكرامة قبل الخبز وبين الذي يسعى إلى إستعادة هوية مفقودة وبين من يرى إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت.
تبادل النظام الجديد والمعارضة الإتهامات وتحاججوا وتجادلوا في الساحات والجامعات ومن على المنابر والشاشات وإتفقوا لكن سرعان ما عادوا فتبادلوا الإتهامات وأحيانا اللكم والضرب في الساحات ثم تفرقت ريحهم وظلت دار لقمان على حالها. لا يمكن للثورة التي جاءت من أجل إنقاذ الناس وسيادة القانون أن تكون السبب في مزيد تفقيرهم وظلمهم، أكيد أنّ هناك خلل ما يجب إكتشافه وإصلاحه قبل أن تتطور الأمور وتؤدي إلى مالا يحمد عقباه.
في ظل هذا الغموض المشُوب بقلق يطبق على الأنفاس وجد شباب وشابات تونس ضالتهم في متنفس آخر إنّه الرقص في ساحات المدارس والذي إنتقل إلى مختلف الساحات، ليس رقصا شعبيا ولا هو تونسيا ولا عربيا إنّه ببساطة رقصة «هارلم شيك» وهي رقصة تعبّر عن حالة القلق الذي يعانيه الشباب في الغرب، وشكل الرقصة أن يقوم الشباب والشابات بالرقصة في ملابس غريبة وتنكرية ويضع كثير منهم الأقنعة، وقد بدأت الرقصة أوّل ظهورها في أحياء هارلم بنيويورك سنة 1981 ثم انتقلت عدواها إلى أوروبا وآسيا لتطل برأسها أخيرا في تونس حيث تحوّلت إلى عنوان للتعبير عن القلق وتفريغ شحنات الغضب عند بعض الشباب في تونس. وقد واجهت السلطات الرسمية ممثلة في وزارة التربية رقصة «هارلم شيك» بالرفض حيث قرّر وزير التربية عبد اللطيف عبيد في يوم 24 شباط (فبراير) فتح تحقيق في الموضوع إذ إعتبر أنّ «هارلم شيك» التي أدّاها طلبة مدرسة «الإمام مسلم» الثانوية بالمنزه في العاصمة تونس تجاوزوا فيها حدود الأدب وأنّ الوزارة ستتخذ الإجراءات اللازمة بعد الإنتهاء من التحقيق. وقد رفضت بعض منظمات المجتمع المدني قرار الوزير واعتبرت أنّ الرقصة تدخل ضمن الحريات المدنية
بعد قرار الوزارة تحوّلت رقصة «هارلم شيك» لتغزو كل المعاهد التعليمية والثانوية كعملية تمرد وتحدّ لسلطة الوزارة التونسية للتربية والتعليم. لم يقتصر الأمر على ساحات المدارس إذ تحوّلت مجموعة من طلاب الثانوية إلى ساحة تتبع إلى مستشفى حشاد الجامعي بمدينة سوسة وأشعلوا الشماريخ تمهيدا لرقصة «هارلم شيك» فصدتهم قوات الأمن التي جرح منها البعض وأعتقل سبعة شبان أطلق سراحهم بعد إلتزام أوليائهم بعدم عودتهم لنفس الفعل. وقد إزداد موضوع رقصات «هارلم شيك» هذه تفاعلا ودلى الجميع بدلوهم، فحسب ما أوردته أخبار «فرانس براس» فإنّ مجموعة سلفية رأت في رقصة «هارلم شيك» خدشا للحياء وإعتبرتها حراما شرعا لذلك إقتحمت في 27 فبراير معهدا في حي الخضراء (بورقيبة للّغات الحيّة) ودخلت في مشاجرة انتهت بتبادل الضرب مع طلبة الثانوية الذين كانوا يتهيؤون لبدء الرقصة.
إن الرقص ظاهرة اجتماعية ترتبط أنواعها بالسنّ كتعبير عن حالات أو حاجات جسدية ونفسية، ولا يمكن أن نعطيها أكثر من حجمها، وماحصل في تونس كان نوعا من الإحتجاج الغير مؤسس والذي تم بشكل عفوي وفوضوي تعبيرا عن الإحساس بأزمة يعيشها المجتمع ويجب البحث فيها لإعادة تأطير تلك الفئات الشبابية وتهيأتها للتعبير عن حاجاتها المختلفة بطرق أكثر فاعلية وأكثر إحتراما للمجتع الذي يعيشون فيه ولا نعتقد أنّ أيّ مجتمع مهما بلغ من الرقي والتفتح يقبل أن يرقص شباب أغلبهم مراهقون يرتدي بعضهم ملابس داخلية فقط في ساحة المدرسة التي تعتبر مؤسسة تربوبة.
نعم من المفترض أن يحاول أهل الإختصاص دراسة الظاهرة لمحاولة فهمها ، لكن من غير المسموح أن يقع تسييسها وتوظيفها في سجالات بين الأحزاب.
الشباب هم عماد الأمم وطليعة مستقبل أيّ شعب وإذا أُريد لأمّة البلاء والهلاك عُمل على تمييع شبابها، ثم دفعوه للفوضى وبذلك يكون ذلك الشعب قد ضُرب في مقتل.
الشيطان يكمن فـي التفاصيل: الريبة
تعجّ الساحة السياسية بالشعارات الثورية وبالحديث عن الديمقراطية ودولة المواطَنَة وحقوق الإنسان والسعي إلى حلّ مشاكل البطالة والإقتصاد، جميع الأحزاب بدون إستثناء تكاد لا تختلف عن بعضها البعض في خطاباتها وحواراتها، التي تطغى على المشهد الإعلامي خاصة المرئي منه، حيث تكثر البرامج السياسية التي بلغت حدّ التخمة. لكن كلّما تسارعت الأحداث وكثرت التفاصيل توسّع الشرخ وإحتدمت الصراعات التي بلغت حدّ الدعوة إلى الإقصاء والإجتثاث والسبب في ذلك هما الريبة والشك الذين يأكلان الجميع. يشك الخصوم السياسيون في بعضهم البعض، في نواياهم وفي برامجهم وأجنداتهم الحقيقية. اليساري يعتقد أنّ الإسلامي يُخفي رغبة في إلغائه وربّما تطبيق حدّ الزندقة أو الكفر عليه والإسلامي يخشى اليساري إذا هيمن لأنّه يعتقد أنّه سيمارس عليه دكتاتورية البروليتاريا ويلغيه لأنّه يمثل فكرا إقطاعيا متخلفا، أمّا الليبرالي فيخاف الإثنين معاً والإثنان يخافان الليبرالي المتهم عندهم عادة بالإرتباط بالخارج والذي يريد أن يلتف على الجميع.
هذا التوجُّس خلق حالة من عدم الثقة بين الفرقاء السياسيين وحالة من الخوف من الآتي في المستقبل لدى أغلب جماهير الشعب الذي لم يعد يرى في المستقبل إلاّ عدم الوضوح والغموض يلُفُ أغلب المشهد السياسي.
لقد داخل الشكّ المعارضة بعد تعيين رئيس الحكومة الجديد علي لعريض بسبب إعتقادهم أنّ دعوة سلفه الجبالي إلى حكومة تكنوقراط كانت مراوغة لكسب الوقت وإمتصاص غضب الشارع بعد إغتيال أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين شكري بلعيد، ورغم إستقالة الجبالي فقد أُوّل بعضهم ذلك برغبة من النهضة في أن يتفرغ الجبالي للتحضير لحملته للإنتخابات الرئاسية. تفتّح بعض اعضاء النهضة على بقية الاحزاب وفتحوا حوارات معها ومارسوا النقد الذاتي لحزبهم فقوبلوا بالتهديد بالفصل من «النهضة» حيث عبّر فتحي العيادي رئيس مجلس شورى «النهضة» عن رفض الحزب لأيّ مواقف خارجة عن توجهات مجلس شورى النهضة و في صورة إصرار السادة عبد الفتاح مورو نائب رئيس «النهضة» وسمير ديلو وزير حقوق الانسان والعدالة الانتقالية والعضو في «النهضة» على تغريدهما خارج سرب الحزب فقد تطالهما عقوبات تصل إلى حدّ الفصل من الحزب. وقد مثلت هذه المواقف الصارمة سببا لمزيد من الريبة والشك لدى أحزاب المعارضة التي اصبحت تعتقد أنّ النهضة تخنق الأصوات المعتدلة لتيار الحمائم داخلها وتتجه إلى أقصى يمينها ولا تقبل بالإختلاف حتى في داخلها فما بالك مع خصومها؟. في المقابل يرى محللون أنّ النهضة خائفة من الظاهرة التي ترى فيها أجندات لكثير من الأحزاب المعارضة التي تعمل على شقّ صفوف النهضة بالحديث عن وجود تيار للحمائم ووجود أجنحة داخل النهضة وتمجيد «النهضويين» الذين يمارسون نقد حزبهم علنا وتشجيعهم على المضي قدما في تقسيم الحركة والإنفصال عبر الحديث عن مشاريع لأحزاب ستؤسس من الخارجين من النهضة من تيار الحمائم.
تتسع رقعة الشك بين مكونات الطبقة السياسية يوم بعد آخر وكلما تراكمت الأحداث إزدادت الأسئلة تعقيدا والشك إشتعالا وإنتشارا، فبعد أن أصرّت المعارضة على تحييد الوزارات السيادية وهي وزارات الداخلية والخارجية والدفاع والعدل ورفض النهضة لطلبهم ، فبُرّر ذلك الرفض حسبب محللين بخوف «النهضة» من أن توظف تلك الوزارات من قبل الأحزاب المناوئة لها لضربها والإلتفاف على الثورة. وبعد شد وجذب قبلت «النهضة» بذلك أي بأن تحيّد وزارات السيادة فتفاجأت المعارضة بالموافقة التي فسّرتها بإنتهاء «النهضة» من تنفيذ أهدافها بواسطة تلك الوزارات حيث وظفتها حسب رأيهم للسيطرة على مؤسسات البلاد عبر تعيينات هامّة وكبيرة في كل القطاعات وفي كل المحافظات ممّا سيسمح لها بالتحكم في مفاصل الدولة دون الحاجة لتلك الوزارات لذلك قبلت بتحييدها الآن، ولهذا السبب قال محمد بنور الناطق الرسمي بإسم «حزب التكتل» بإنّ حزبه يطلب إعادة النظر في كل التعيينات التي تمت في الفترة السابقة.
تتراكم التساؤلات ولا تجد في غالب الأحيان إلاّ تأويلات معها يعود الشك سيدا للموقف.
وقع القبض على قتلة شكري بلعيد وأعلن وزير الداخلية في مؤتمر صحفي عن «الهوية السلفية» للقتلة إلاّ أنّ المعارضة لم تكتف بذلك وتريد أن تعرف من يقف وراء عملية الإغتيال حسبما جاء على لسان حمّة الهمامي الناطق بإسم الجبهة الشعبية، ويرى محللون في هذه الطلبات إتجاها من بعض أطراف المعارضة للتلميح بإتهام سلفيين مقربين من «النهضة»، خاصة بعد الإتهام العلني لحزب «نداء تونس» والجبهة الشعبية المعارضَين لحزب «النهضة» بمسؤوليتها عن الإغتيال، وهو ما رفضته «النهضة»، بشدة، حيث أعلنت أنّها تحتفظ بالحق في مقاضاة الذين إتّهموها بإغتيال المعارض شكري بلعيد.
عاد المشهد للضبابية من جديد واتسعت مساحة اللا يقين بعد رفض السلفية التونسية التهمة بإغتيال بلعيد، حيث أعلن حزب الأصالة التونسي السلفي في بيان له أنّ السلفية لا يمكن أن يقتلوا غيرهم «حتى وإن كان المقبوض عليه ملتحٍ ويلبس قميصا فوق الكعبين» كما أنهم أي السلفية «لن يكونوا الضحية لحسابات سياسية قذرة، وأن التيار السلفي بريء من دم شكري بلعيد». إذا كان الأمر كذلك فمن يقف وراء الاغتيال؟ وهل يكون الإغتيال من عمل أفراد معزولين قاموا به تعصّبا ولم يكن ورائهم تنظيما ولا أجندا؟ وهو التأويل الذي ترفضه المعارضة؟
إنها اسئلة تلد أخرى ولا تجد لها الآن أجوبة شافية لكنها في المقابل تُراكم شكًّا لازال يكبر ويكبر ونرجو أن لا يتضخّم فيحجب مزيدا من الحقائق ويتحول إلى جدار سميك يفصل بين فرقاء يجمعهم الشك.
Leave a Reply