يحتدم النقاش كل عام ولاسيما قرب عيد الفطر السعيد حول الثبوت الشرعي للهلال. وهو أمر طبيعي متى ما عرفنا حساسيته لدى المؤمنين باعتبار حرمة الصوم فيه من جهة ووجوب صوم آخر يوم من رمضان من جهة أخرى. فترى المؤمنين يكثرون من السؤال والتشكيك للتثبت الى وقت متأخر من ليلة العيد المحتملة ليتحققوا من ثبوت الهلال شرعاً فتكون عباداتهم شرعية وعلى الوجه الصحيح. إذن، مبدأ النقاش مبدأ سليم ومنطقي. لذا نأمل أن يناقش الموضوع هكذا أيضاً، بعيداً عن التهويلات والتأويلات واستغفال عامة الناس بمصطلحات ومسميات عريضة وبراقة.الرغبة بعيد موحد؟يرغب المسلمون بعيد موحد ليعيشوا فرحتهم في يوم معين واحد، فالتعدد قد يذهب ببريق الفرحة. ثم انه يعطي انطباعاً عن وحدة الصف والموقف. كما هو فرصة طيبة كفيلة بأخذ عطلة مسبقة من العمل بدل الحيرة والانتظار الى آخر يوم. لذا كثيراً ما يطرق الأذهان مصطلح الثبوت الفلكي والتبجح بالمحاسبات الرياضية الدقيقة والتقدم التقني. فما هي المشكلة؟ ولماذا الاختلاف؟ وما هو الحل؟المبنى الحسابي الفلكييعتمد من يذهب الى المحاسبة الفلكية بتحديد هلال أوائل الشهور الاسلامية حتى الى ما بعد آلاف الأعوام!!، على مبدأ محاسبات رياضية تقنية عليا، يظن أنها كفيلة بحل المشكلة وبتحقق أحلام المسلمين.فيحسبون بأن القمر مادام أنه دخل مداره الجديد بعد المحاق، فإنه ولد لدورة جديدة، ويكفي لابتداء الشهر الجديد هو أن نعتمد على المحاسبات الفلكية القائلة بامكانية رؤية القمر في أية نقطة من العالم حتى لو في عرض المحيطات، وبأية وسيلة كانت كالنواظير الالكترونية. وبناء على ذلك نبدأ الشهر الاسلامي ونوحد المسلمين.إنه طرح جميل وسهل وبكل بساطة يحاول حل مشكلة ليس إلا. ولذا يبقى وجهة نظر ليس أكثر. لكن حينما نرجع الى الشريعة وفقهائها الذين أفنوا حياتهم في تعلمها وتعليمها، لنحصل على تأصيل فقهي قائم على القرآن والسنة، فاننا نواجه قوانين وأصول تختلف جذرياً مع قضية «نظرية» هذا المفكر وذاك الباحث، وبين «ثبوت شرعي» مطلوب منا شرعاً. وللفقهاء في هذا كلام يطول ويطول نأمل أن يتناول لاحقاً بشئ من العمق لكن مع سلاسة التعبير والبيان بما يفيد العموم. وما نريده هنا هو المساهمة في التثقيف العام لرفع بعض الغبار الذي يعاني منه أفراد الاسرة الواحدة الى درجة أصبح البعض يشمئز من قرب يوم العيد بسببها!لكن الاشكالية الأهم والأقوى هي أن الفلكيين أنفسهم لا يتفقون على مبدأ واحد في تحديد وقت رؤية الهلال!! بل أكثر من ذلك فإن الموقع الفلكي ناسا يؤكد في تقرير له منشور على الشبكة العنكبوتية أنه لا يمكن تحديد وقت رؤية الهلال بفيد به المسلمين من الاعتماد عليه كمبدأ لأوائل الشهور الاسلامية!! ولذا نرى أن الفلكيين أيضاً هم بدورهم لإثبات دراساتهم ومدعياتهم يؤسسون مراصد ضخمة ويذهبون للاستهلال كل شهر لتصحيح دراساتهم لا لفرض توقعاتهم. بل وأكثر من ذلك فإن جامعة ميشيغن تجعل جائزة تنافسية للطلبة المهتمين بطلب وتفقد أحوال الهلال ولا تكتفي بجداول بياناتها العلمية والرياضية! كما أخبرونا شفوياً.المبنى الشرعي لدى الفقهاء؟يعتمد الفقهاء أولاً على القرآن والسنة النبوية الشريفة قبل كل شئ. وإلا فالفلك وعلم الرياضيات كان معمول بهما قبل الاسلام وقبل النبي الاكرم (ص) ولذا فالنبي إما كان يعلم ولم يعمل به، وإما كان لا يعلم فيحكم عليه بالجهل (نستغفر الله)، ولازمه، أنه اختلط عليه بداية ونهاية شهر رمضان أكثر من مرة في حياته، وفاتته فضيلة ليالي القدر، ليال نزول القرآن عليه!!!وبلسان عربي مبين، يصرح الله تعالى في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} فالسائلون هم عامة الناس، وليس طلاب جامعة علوم فلكية او طبقة خاصة لها اهتمامات فلكية. ثم يأمر الله نبيه بجواب:{قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. وقوله تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}. فالهلال مبدأ حسابي للناس في عدة أمور كحلول الديون والعهود وعدد النسآء والحج والصيام… إضافة الى أحاديث عديدة صريحة وصحيحة بل ومتواترة تنص على «صم للرؤية وافطر للرؤية» وأنه «ليس بالرأي ولا بالتظني».ثم ان الحديث هو عن «الهلال» وليس عن «القمر» كي نبحث متى بدأت الدورة الجديدة ومتى ولد ومتى ومتى.. فالقمر هو قمرٌ مهما كان، وله حركته الثابتة وحساباتها الدقيقة ولا علاقة موضوعية لها بما نريد. إنما الموضوع هو «الهلال» وهو حالة من حالات القمر الذي تتحقق رؤيته حينما يكون القمر بين الشمس والارض بزاوية معينة تكفي لعكس أشعة الشمس الى من هو على سطح الارض في وقت الغروب فيراه بالعين المجردة مع صفاء الجو وسلامته. وقيد «العين المجردة» يخرجنا به عن العين المسلحة، فالفقهاء أيضاً حينما يرفضون الاعتماد على النواظير إنما من باب علمي. ذلك أن النواظير مهمتها تقريب الهدف كي يشاهد، وقد تشهد البشرية في القريب العاجل نواظير الكترونية عملاقة تمكن الانسان من النظر الى القمر حتى لو كان لا يزال تحت شعاع الشمس. فهل بهذه الحالة يمكننا أيضاً اعتماده مبدأ لأول الشهر؟إذن، الحكم الشرعي يحدد ثبوت أول الشهر بإمكانية رؤية القمر «هلالا» بالعين المجردة للانسان السليم النظر، مع صفاء الجو وسلامته من الغبار أو الدخان أو الضباب أو غيره. وهنا تكمن كل القضية. فالهلال هو «موضوع» القضية بأكملها وليس كما يتصور أنها قضية حسابية وحسب. فالفقهاء ليسوا ضد الفلك، إنما يتعبدون بالنصوص الدينية الملزمة للمؤمن باتباعها، وإلا حين فسحة المجال فهم يأخذون بكل جهد علمي يؤدي الى اليقين أو الاطمئنان. مثال ذلك بعض استفتاءات سماحة السيد السيستاني مد ظله يجيب فيها بوضوح فيما إذا أفاد قول الفلكي الاطمئنان بإمكانية رؤية الهلال ولم يشاهد لسبب مانع كالغبار والدخان مثلا، فإنه يؤخذ بقوله. فالقضية ليست قضية شعارات كالقول بتوحيد المسلمين، فهناك الكثير من الاولويات اليومية قبل السنوية يحتاج المسلمون فيها الى توحد. والجميع يعلم أننا لا نعيش في عالم المدينة الفاضلة كي نتصور الكمال المطلق، لاسيما وأن الجميع أصبح ينادي بالحرية الفكرية والتعددية في الرأي، فلا ضير أن يكون في تحديد يوم العيد اختلاف نظر. من هنا نعتقد وبشدة، أن الحل الوحيد يكمن في تثقيف المؤمنين على آراء الفقهاء واجتهاداتهم التي قامت بها الحوزات العلمية ومعاهد ومعاقل العلم. ومتى ما عرف المؤمنون منابع العلم وأصالة الفقه ومن أين يؤخذ ويقتبس فحينها سوف لن نجد الامة في ضياع وتيه وحروب مصطنعة تنخر بالامة من داخلها لتضيّع نفسها ومستقبلها.وحدة الأفق وتعدد الآفاقبعد التسليم بمبدأ الفقهاء المعتمد على إمكانية الرؤية بالعين المجردة، إذن لماذا يتعدد يوم العيد أيضاً لمقلدي الفقهاء أنفسهم؟ ألا يكفي ثبوت رؤية الهلال في بلد أن تكون ثابتة لكل البلدان في العالم ليكون عيداً واحداً؟مرة أخرى نقول، أن هناك بحوث واجتهادات للفقهاء مبنية ومستقاة من نصوص دينية انتهت بهم الى رؤى متعددة. فثلة قليلة من الفقهاء قالوا بثبوت الهلال أيضاً لكل البلدان، واصطلحوا عليه بـ«وحدة الأفق». ومعناه إن شوهد الهلال في مغرب بلد ما، فإنه يثبت أيضاً لكل البلدان المشتركة معه بليل واحد وإن كان عندهم فجراً. فمثلاً إذا ثبتت رؤيته في ديترويت فإنه يثبت لمن هو في بريطانيا أيضاً، لان البلدين يشتركان في ليل واحد. أو إذا ثبتت الرؤية في لوس أنجلوس فإنها تثبت لمن هو في نيويورك لان البلدين يشتركان بليل واحد. وكان أبرز من تبنى هذا الرأي هو المرجع الراحل سماحة آية الله العظمى السيد الخوئي قدس سره.يقابل ذلك مبدأ «تعدد الآفاق» الذي يقول به أغلبية الفقهاء وفي طليعتهم سماحة المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد السيستاني مد ظله. ويُقصد به أن لكل بلد أفقه الخاص به. فلا يتحد بلد مع آخر ببداية الشهر إلا إذا كان هناك تلازم بالرؤية في نفس الوقت بعد الغروب في ذلك اليوم. ويحدث ذلك حينما يحمل الهلال صفات متقاربة كالارتفاع والحجم بين بلدين أو أكثر، بعبارة أخرى أن قوساً يشكل نصف بيضوي سيكون متحد الأفق لعدد من البلدان الساقطة تحته «إذا أفاد قول الفلكي الاطمئنان». وهو ما أثبته جواب استفتاء لمكتب سماحته مد ظله في النجف*يمكن ملاحظته من خلال الموقع الالكتروني:www.imam-us.orgلذا نأمل من المؤمنين تلقي المشكلة بموضوعية ورحابة صدر، والتفاهم داخل الاسرة الواحدة والقبول بمبدأ التعددية وحرية الرأي وكل يرجع الى مقلده الشرعي مع احترام قرار الآخر. وأن يأخذوا معلوماتهم الشرعية من منابعها ومصادرها لا سواهما قطعاً. وأن يلتمسوا أخبار الأهلة من بيانات لجنة الهلال التابعة لمجلس علماء المسلمين الشيعة في أميركا الشمالية التي تصدر شهرياً وبانتظام، ويمكن زيارتها والاطلاع عليها أول بأول من خلال الموقع الالكتروني المذكور أعلاه.رمضان كريم، بلدة طيبة، ورب غفور، وكل عام وأنتم بخير، وبرجاء قبول الأعمال والطاعات.عالم دين، ومدير مؤسسة الإمام، مكتب المرجعية الدينية العليا في أميركا الشمالية
Leave a Reply