ينزع اللبنانيون بمعظم «شعوبهم» نحو الرهان على إستقرار أمني وسياسي له طابع المياومة أكثر مما يتصف بطابع الإستدامة بسبب تجاربهم المحبطة على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الحروب والصراعات التي استنزفت آمالهم بعيش «طبيعي» مثل سائر شعوب المنطقة، باستثناء الشعب الفلسطيني الذي تعتبر حياته سلسلة من المعاناة الموصولة.
كان الظن أن إتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية قد أسس لإستقرار طويل الأمد وأنهى عقود الصراعات الأهلية، لكن سرعان ما تبيّن أن «السلم الأهلي» الذي أرساه «الطائف» لم يكن سوى هدنة طويلة سقطت بمجرد الخروج السوري من لبنان، وليتبيّن أن نعمة هذا «السلم» الذي خبره اللبنانيون
كانت مشروطة بالوجود السوري شرطاً لازماً فإذا انتهى انتهت معه وعاد لبنان إلى سيرته السابقة مرتعاً للصراعات والتجاذبات وعادت «شعوبه» «قبائل لا تتعارف» إلا بمقدار تحقق المصالح الممسكة بخناقها عربية كانت أم إقليمية أم دولية.
جاءت أحداث الثامن من أيار (مايو) الماضي لتُجدّد «عقد النزاع» وتضع اللبنانيين وأوصياءهم أمام خطر حرب أهلية جديدة، من باب الفتنة المذهبية هذه المرة، بعدما أخلت لها الفتنة الطائفية ساحة الصراع، وهو باب ينذر بنتائج أدهى وأخطر بما لا يقاس من الفتنة السابقة التي خاضت خلالها الطوائف حروبها وحروب الآخرين بكل «جدارة».
بالأمس القريب حلت الذكرى السنوية الأولى لمعارك مخيم نهر البارد التي صهرت جيش البلاد في أتونها لما يربو على الثلاثة أشهر وخرج منها بانجاز كبير تمثل في هزيمة تنظيم إرهابي أصولي، رغم الثمن الفادح الذي دفعه هذا الجيش من خيرة ضباطه وجنوده ودمار المخيم وتشرد سكانه في تلك الكارثة التي أضافت إلى معاناة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان فصلاً جديداً قاتماً، وجرحاً آخر من جراحهم المفتوحة منذ النكبة الأولى في فلسطين، لكن هذه المرة بفضل محاولة تحويل ثاني أكبر المخيمات الفلسطينية إلى «أرض جهاد» على الطريقة الإرهابية التي تمثلت بمذبحة الجنود اللبنانيين في مهاجعهم على تخوم المخيم.
في هذه الذكرى الأولى ظهر شريط صوتي نسب إلى قائد تنظيم «فتح الإسلام» شاكر العبسي غير المعروف الاقامة بعد خروجه الغامض حيا من المخيم قبل سقوطه في أيدي الجيش اللبناني. وبصرف النظر عن صحة نسبة الشريط إلى العبسي إلا أن ظهوره في هذه الآونة التي يحاول فيها القادة اللبنانيون العودة عن الهاوية المذهبية التي وضعتهم أحداث الثامن من أيار الماضي على حافتها الخطيرة، يساعدهم في ذلك إتفاق الضرورة الذي أنتجته الدوحة القطرية للجم عنان حرب مذهبية بدت محققة الإندلاع، قبل أن تعمل القوى الإقليمية والدولية على نزع فتيلها مؤقتاً.. هذا الظهور جاء ليؤشر إلى أن الفتنة المذهبية التي كانت نائمة فأوقظت، لا تزال حية في الميادين والساحات والزواريب، وإن غابت عن تصريحات القادة الطائفيين والسياسيين الذين ألهتهم «غنائم» إتفاق الدوحة المفترضة وكيفية توزيعها عن الإمعان في خوض حروبهم الإعلامية الدونكيشوتية، هذه الفتنة تهدد بالإطاحة باتفاق الدوحة الذي قام على ثلاثة ركائز أوّلها إنتخاب رئيس للجمهورية بعد فراغ دام ستة أشهر، وهذه الركيزة تحققت، غير أن الركيزتين الأخيرتين وهما حكومة الوحدة الوطنية وقانون الإنتخاب لا تزالان تتعثران وينذر تعثرهما الذي تواكبه أحداث أمنية يومية متنقلة، دخل فيها الأسبوع الفائت السلاح الثقيل في منطقة البقاع الأوسط، بانتكاسة خطيرة تضع الإتفاق برمته في مهب الزوال، وكأن شيئاً لم يكن.
وإذ احدث انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً صدمة ايجابية إلا ان مفاعيل هذه الصدمة بدأت بالتلاشي أمام الهزات الارتدادية المتوالية لزلزال الثامن من ايار في بيروت والجبل والشمال.
فبالرغم من كل الاصوات الداعية الى قيام الجيش وقوى الامن الاخرى بـ«واجباتها» والضرب بيد من حديد، وبرغم الاحاديث الشائعة عن «رفع الغطاء» عن مثيري المشاكل ومفتعلي الحوادث على جوانب خطوط التماس المذهبية الجديدة، لا يستطيع الجيش ولا القوى الامنية الاخرى استخدام اي يد بفعل غياب التغطية السياسية لمهمة هذا الجيش الذي ما انفك بفعل ذلك الغياب يمارس دور قوة الفصل بين المتحاربين الجدد في لعبة منهكة لقدراته وطاقاته وهو الذي امسى بلا رأس بعد انتخاب قائده رئيساً للجمهورية وليكون على موعد مع جولة حامية من المناكفات السياسية القادمة حول منصب قائده واي الشروط «السياسية» يجب ان تتوفر فيه ليكون مقبولاً من كل الاطراف.
لقد تحقق من اتفاق الدوحة ثلثه المتعلق بانتخاب الرئيس لكن ملء الفراغ في قصر بعبدا لم يأت باطمئنان واستقرار على ما تؤشر الحوادث الامنية التي تبدو كجرعات توتير محسوبة بدقة حتى الآن، للموازنة بين انجاز انتخاب الرئيس وعدم انجاز ثلثي الاتفاق الآخرين واغلى ما فيهما «الثلث المعطل» الذي انتزعته المعارضة الحالية.
ولكن ما بات يخشى منه هو ان تحقن الاوضاع الامنية بجرعة توتر زائدة. اما نتيجة خطأ في الحساب الداخلي، او بسبب الحاجة الي مواكبة التوترات الاقليمية – الدولية والارتقاء الى مستوياتها، بعدما عادت الاحاديث عن خطر توجيه ضربة عسكرية اميركية او اسرائيلية ضد ايران، وما يشاع عن ان اتفاق الدوحة لم يكن سوى خطوة لتحييد وتجميد الجبهة اللبنانية بالترافق مع بروز انباء المفاوضات الاسرائيلية – السورية غير المباشرة عبر الوساطة التركية والسعي السوري الى فك جدار العزلة العربي والدولي مستهلاً بتسهيل انتخاب الرئيس اللبناني وهو شرط وضعته الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والعرب ووجد له ترجمة في اتفاق الدوحة الذي عكس جوانب من «التنازلات» المتبادلة بين الطرفين السوري والاميركي.
ثمة خشية حقيقية مع تعثر التأليف الحكومي، من عدم قدرة اتفاق الدوحة على الصمود وان يلقى مصير «اتفاق مكة» بين «حماس» و«فتح» وان يتحول انتخاب الرئيس ميشال سليمان الى خطوة شكلية تجعل منه تكراراً لتجربة الرئيس السابق الراحل الياس سركيس الذي تحول عهده الى عهد ادارة صراع بين الميليشيات الطائفية المتنازعة خلال الحرب الاهلية والذي انتهى بغزو اسرائيلي وصل الى العاصمة اللبنانية.
ويبدو جلياً ان اتفاق الدوحة مهد لهدنة سياسية لم تنسحب على التوتر الامني الميداني الذي لا يزال يتنقل من بقعة الى اخرى للحفاظ على منسوب الحد الادنى من الصراع الذي تتحكم برفعه وخفضه ارادات ومصالح اللاعبين الخارجيين الكبار، ولا يملك اللبنانيون إزاءه، وبانتظار حسمه الذي قد يطول، سوى الثرثرة على هوامشه والتي لا تخلو من «لعب الأولاد» وخصوصاً عندما يكثرون الحديث عن الوزرارات «السيادية» المصنفة اربعاً: مالية وخارجية ودفاع وداخلية فإذا ما حصل فريق على احداها او اكثر انتقصت «السيادة» من وجهة نظر الآخر، ووجب تصحيح هذا النقص «السيادي» بالقبض على وزارات اخرى، وبما يفيد ان في لبنان اربع «سيادات» على الاقل اذا التزم المرء بالمعطى الحكومي وان تقسيم الغنائم السيادية هذه على فريقين يجعل السيادة «ثنائية» في افضل الاحوال. وكان أحدث ما تفتقت عنه المحاولات الجارية لحل عقد التأليف الحكومي وأكثرها إستهتاراً بكرامة البلد والمؤسسات الدستورية فيه هو إقتراح إجراء قرعة أو سحب يانصيب «سيادي» لمعرفة الفائزين!!
اليس من المخجل، فضلاً عن المضحك استمرار هذه الثرثرة اللبنانية، في حين ان اي مواطن بسيط يدرك، اذا قرر استعادة عقله للحظة من «صندوق الامانات» الطائفية والمذهبية الذي اودعه اياه، طائعاً او مكرهاً، ان بلده بات اسير صراعات لاناقة له فيها ولا جمل وان سياسييه ليسوا اكثر من «وكلاء» اذا اقتضى التهذيب الاقتصار على هذا الوصف، في بيع حصصهم الحكومية «السيادية» او توظيفها في بورصة الصراعات الاقليمية والدولية دون ان يرف لهم جفن وهم يتحدثون عن السيادة والحرية والاستقلال؟
لكنه دأب اللبنانيين منذ عهدهم «بالسيادة» و«الاستقلال» بدءاً من زمن المتصرفية في العام 1860وصولاً الى «الصيغة الفريدة» في العام 1943.
وقد وصف حالهم مرة احد المندوبين السامين الفرنسيين على لبنان واسمه «سرّايل» عندما قال:
«اعط اللبنانيين حرية الثرثرة، وافعل بهم ما تشاء».
Leave a Reply