بقلم: كمال العبدلي
من المعروف تأريخيّاً خلالَ قرنٍ مضى، أنّ الحكومات فـي عالَمِنا العربيّ، التي تعاقبت على إدارة دفّةِ السلطاتِ التشريعيّة والتنفـيذيّة والقضائيّة، قد درجتْ فـي أغلبِها على صيغةِ التعيين، الذي هو عادةً يقتصر على الحاشية والمُقرَّبين من السلطةِ أو الضالِعين فـي رِكابِها، لا على تطبيق مبدأ الكفاءات ووضعِ الرجل المناسب فـي المكانِ المناسب.
وتأتي تلك الفجوة الخطيرة، كنتيجةٍ لتغييبِ صوتِ الشعب، وحجبِ حرّيّةِ الفكر والرأي، وإقصاء ثقافة الإنتخابات بسبب قيام أغلب أنظمةِ الحكُم على أسِنّةِ الحِراب، أو عبر الإنقلابات العسكريّة، أو بوسائل إلتفافـيّة عديدة تجري من وراء الكواليس، لا أثرَ فـيها على الإطلاق للصوتِ الحقيقي صاحب الملايين، صاحب المصلحة فـي إدارةِ شؤون البلاد.
وعلى الرغمِ من ظهور نُخَبٍ واعية حريصة على المصالحِ العامّة، خلالَ حِقَبٍ وفتراتٍ متلاحِقة أو متفاوتة نادتْ بحقِّ الإنتخابات وضرورة اتّخاذ الإجراءات الكفـيلة بانتهاج الحياةِ الدستوريّة طريقاً للسَيْر ببلدانِنا نحو الإستقلال والتقدّم والإزدهار، إلّا أنّها قُمِعَت بكلِّ وحشيّةٍ وقسوةٍ وتعسُّف، وطورِدَ رموزُها ولوحِقوا اغتيالاً وسجناً وتعذيباً دون رحمةٍ أو هوادة، كما حدث فـي العراق كنموذجٍ هو الأسوأ فـي القرن المنصرِم، صبيحة الثامن من شباط الأسود عام 1963.
وعلى الرغم ممّا حصُلَ من تغييرٍ فـي العديد من بلدانِنا العربيّة، خلالَ مخاضات الربيع العربيّ التي وإن تمّ الإلتفافُ عليها فـي محاولةٍ لإجهاضِ نهضةِ الأمّة، إذ ظهرتْ حركاتٌ وانتفاضاتٌ وسمت المرحلةَ القريبة بالإنفتاحِ على المستقبل وانفراج بوادر الأمل بحياةٍ تليقُ بسمعة وحضارةِ الأمّة، فالإنتفاضات التي عايشناها بكلّ اهتمامٍ وتعاطفٍ وتلهّفٍ، تلك التي بشّرت بتدشين عهدٍ جديدٍ لأمّتِنا العربيّة يفتح الأبوابَ واسعةً أمامها لدخول التأريخ مكلّلةً بمنجزات العالَمِ المتقدِّم فـي مضمار الحياة النيابيّة عبر الإنتخابات، لقد كانت المحاولة، وكانت خوضَ التجربة على أيّة حالٍ، رغم الإخفاقات التي صاحبتها، وهذا بحدِّ ذاتِهِ دليلُ وعيٍ متحفِّز، وخطوة إنعطافـيّة فـي مجرى التأريخ لابدّ وأن تُفضي فـي النهايةِ إلى التكلُّلِ بالنجاح وتجاوز السلبيّات والأخطاء التي تصاحبُ أيَّ حركاتٍ وانتفاضاتٍ من هذا القبيل، حيث لم تصل النظُمُ الحديثة فـي العالَم المتقدّم إلى ما وصلتْ إليه بين ليلةٍ وضحاها وبيُسر، وإنّما عبر مراحل زمنيّة تخلّتْها مخاضاتٌ وتضحيات وتجارب مريرة عاشتها الأمم وأشار إليها التأريخ بكلّ تفصيلٍ ووضوحٍ ومتابعة.
إنّ وجودَنا كجاليةٍ عربيّةٍ فـي مغتَرَبِنا الأميركيِّ اليوم، يمنحنا الفرصةَ فـي أن نتّخذَ من واقعِنا منطلَقاً لتأكيد ذواتنا وهوّيّتِنا، وذلك بالإستفادة من منجزات العصر وخاصّة فـي مجال الإنتخابات، حيث هي المعوّل عليها فـي اتّخاذ القرارات وصنع المستقبل.
إنّ إبرازَ صوتِنا لا يتأكّد إلّا من خلال حجم مشاركتِنا فـي خوضِ الإنتخابات، لاسيّما وهي التي تحدّد المسارَ المؤدّي إلى خدمتِنا، فعلى سبيلِ المثال هناك من المرشّحين الداعين إلى دعمِ الإنفاقِ على المدارس وهي عماد نشأة أبنائنا العلميّة، وإعفاء الضرائب المفروضة على معاشات المتقاعدين الذين هم أضعف الفئات الشعبيّة دخلاً، أمام مرشّحٍ يقلّص فـي منهاجِهِ الإنفاق على التعليم، ويفرض الضرائب على رواتب فئة المتقاعدين، بإزاء إعفاء أصحاب الشركات الكبرى والمداخيل المليونيّة من الضريبة، فكيف يمكن الوصول إلى التشريع العادل الذي يخدمنا دون أن نسهمَ فـي تحديد الشخصيّة التي تعبّر عن همومِنا وتخدم قضايانا؟ أليست المساهمة فـي الإنتخابات هي الوسيلة الحاسمة فـي هذا الإتّجاه؟ هذا مثالٌ حيٌّ من قائمةٍ لا تُحصى من الأمثلة.
إنّ ممارستَنا لحقِّنا فـي الإسهامِ بالإنتخابات، يساعدنا على نقلِ التجربة بصيغتِها المتقدِّمة إلى بلداننا، حيث ينتفـي هنا النظر إلى تحقيقِ المآربِ الشخصيّة، ليحلَّ محلّه النظر إلى القضايا العامّة التي تخصُّ همومَ الشعب، وتخدم البناءَ الحضاريَّ للبلاد، وتثبيت والمحافظة على القِيَمِ العليا والمُثُلِ السامية فـي مجالِ الخدمةِ العامّة بتأكيدِ روحِ المواطَنة بعيداً تماماً عن التحزُّبِ أو الإنحياز إلى مُكوِّنٍ دون سواه أو أيِّ شكلٍ من أشكالِ التمييز العرقيّ أو الطائفـيّ أو الدينيّ أو المذهبيّ أو السياسيّ، ذلك أنّ قضيّةَ الإنتخابات تتعلّقُ بتقديمِ التشريعات التي تخدم القطّاعات العريضة من فئات الشعب بكافّة مكوّناتِهِ وطوائفِهِ وانحداراتِه.
ثمّ إنّ هذه المساهمة كمشهدٍ وإنجازٍ حضاريَّيْن، تجعلُ من وجودِنا فـي مغترَبِنا كياناً ذا معنىً أمام شعوبِنا فـي أوطانِنا الأم، حيث يكون مثالاً يستدعي إلى السير بحذوهِ كنموذجٍ قابلٍ للتطبيق، بذلك يتّخذ التمرّس على خوضِ الإنتخابات الصيغة المتقدّمة فـي الحياةِ العامّة.
Leave a Reply