”شوف الزهور واتعلم”.. العبارة التي جعلتني أبتسم في نفسي ثم أتنفس عميقاً، وأفكر في تتمتها: ”شوف الزهور يا بني آدم بقه واتعلم”، وكأنما فصيل من بني آدم لا يرى الزهور ولا يتعلم، إلا أنها كانت في الوقت ذاته دعوة للحب والتعلم. تلك رائعة الشيخ زكريا أحمد رحمه الله ومن أجمل ما غنّى ولحّن، ولطالما أعجبني ما تكتب الزميلة مريم شهاب وأناقتها في اختيار القماشة التي تحيك منها وتطرز ثوباً بمقام القارئ. ولا تدّعي.
لقد أطل علينا الربيع بحلته التي تقنعنا وتملأ علينا فضاءاتنا بالبهجة والسرور بعد أن انجلى عنا هذا الشتاء بثوبه البالي وعتمته. خرج الربيع علينا بحسنه أنيقاً زاهياً ليذكر بانقشاع الغمة وظهور أول براعم الحب، لأقول في هذا المقام بأن للحب ثقافة.
الحب هبة من عند الله للذين يستحقونه والذين يستطيعون في الوقت ذاته أن يهبوه دون سواهم. الذين يتكئون على فقر المعتقد وظلمات النفس والهوى وذل الأنا في عتمة الجهل ولعنة الغرور، غير الذين يتقاسمون الحب فيما بينهم بالقناعة والرضا ومبدأ المشاركة وإيمانهم بثقافة الآخر، ومشاركته دون الانشغال في هوس الذات وشره النفس، فيسعد الجميع في دنيا بعمر الرحلة، والتي لا ينبغي لنا فيها سوى ترك الذكرى الطيبة والمعاملة الحسنة. لذلك، لا ينبغي لأحد أن يعوي بالكراهية وحيداً ظناً منه تغريداً خارج السرب الذي في الوقت ذاته لا ينبغي أن يكون أصلاً.
الحب كالضوء الذي يسطع شفافاً يتخللنا ليقهر فينا ظلمات النفس والهوى ويفتح لنا آفاقاً ونافذة للضوء لنكتشف أنفسنا من خلال مرآة الآخرين، الذين يستوجب علينا أن نبادلهم الدور ذاته، فنحن أيضاً في نظرهم آخرين. هو دعوة صادقة، فطالما أن كلانا يحب نفسه فلم لا يحب بعضنا بعضاً، ويا حبذا من تلقاء أنفسنا دون وجوب.. ليتبوأ الحب المرتبة الأرقى والأسمى في خواطرنا.
فالحب شيء خالص لوجه الحبيب. الحب أن تقول لزوجتك كل صباح أنت جميلة وأن تقبلها وتحسن معاملتها. وهو ما تتمناه لأختك مع زوجها. هو أن تعتني بأطفالك وتضمهم ليسري فيهم تيار من حنانك وتعلمهم وتربيهم، وهذا ما تأمله لأبناء جيرانك فيعيش الجميع في تؤدة. هو أن تبتسم في وجه غيرك وتحييه، فـ”الابتسامة في وجه أخيك صدقة”، وهذا ما تصبو إليه حين يعاملك. هو أن تحسن الظن بالناس وإن حرصت فبحرص المؤمن. هو أن تتقي الله في تعاملك مع الآخرين لا تفرق بين من نحن ومن هم، ذلك إن كان الحب شيئاً من ثقافتنا، واعلم بأن الدين المعاملة.
الحب لا يعني دائماً التوافق ويقبل الاختلاف وفي الاختلاف رحمة. ولولا اختلاف القناعات لما كان هناك فروق فردية بين البشر، وما كان هناك تنوع في التناول والعطاء، وما كان هناك تباين في وجهات النظر، إلا أنه يجب علينا أن نتكئ في ردود أفعالنا مع الآخرين على أسس ترعاها قيم الفضيلة والمحبة ويشملها الخلق. كان الرسول (ص) في نصحه ودوداً حينما يقول: ”ما بال أقوام قالوا كذا وكذا..”، ولم يسمِّ الناس بأسمائها فيحرج، وإن لكم في رسول الله أٍسوة حسنة. هكذا نتبوأ الدرجة الرفيعة في الجوار وكذلك السمات العلا.
لا يكون الإنسان فينا خرافة مهترئ فينأى عنه الملائكة والناس، وهو أفضل مخلوقات الله، خلقه فسواه وجعله في أحسن صورة يتباهى به يوم القيامة من طيب عمله. اللهم اجعلنا كذلك. إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام. وتذكر بأن الخلاف الذي يظن فيه كلانا بأنه على حق يجب أن نعلم فيه بأن أحدنا عليه، والآخر قد جانبه الصواب.. لنتأنى ونصبر ونصمت ونجيد الإستماع، و”التمس لأخيك سبعين عذرا” كما ورد في الحديث، لعله يخجل من أدبك فيعود إن كان غافلاً، و﴾ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم﴿، وقل له قولاً ليناً، وكن خصماً شريفاً مؤدباً في محاورة الخصوم، ولا تكن مفلساً تلعن في الخفاء فتكون من الهامزين، واعلم بأن ”كل إناء بما فيه ينضح”. ولا تكن كآخر الرجال الأربعة في قول الإمام مالك ”رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك أحمق فتجنبوه”، فـ”تعش أبد الدهر بين الحفر”، وإن خالطك الناس فلا يغرنك هذا فهو ليس أفضل ما تتمناه. ولن تنام قرير العين من سوء أفعالك، عامل الناس بما تحب أن تُعامل به.
الحب سلام، وكما أوصانا النبي (ص) : ”إذا أحب أحدكم أحداً فليعمله”، وذلك ليفرح. الحب هو أن تدخل السرور على قلوب الناس، فهم دائماً في حاجة إلى كلمة سواء بينك وبينهم فالناس هم أنت وأنت لهم ناس، والكل سواسية. إذا كنت عزيزاً على نفسك، لما لا يكونون أعزاء عليك فتكون عزيزاً لديهم. الحب هو الشيء الذي يجب علينا أن نتبعه ونبقيه دائماً على قارعة المدرج جاهزاً ليحلق بنا دائماً وأبداً في فضاءاتنا، التي كلما غصنا في أغوارها لن نبلغ لها سبراً. لهذا، فالحب شيء بلا حدود، مطلق كالقسم كالنشيد كالغفران كالقصيدة.
الحب كيف، والكره ألف لماذا!
Leave a Reply