دمشق – في مثل هذه الأيام من العام ٢٠١١ كانت قد انطلقت الاحتجاجات الشعبية في سوريا تحت عناوين المطالبة بالإصلاح، ضمن ما يمكن تسميته بـ«الجولة الأولى» من جهود إسقاط النظام الذي قابل تلك التحركات بتنظيم تظاهرات مليونية لمؤيدي الأسد عمّت جميع المدن السورية الكبرى، وبمرور الأسابيع وتوالي «جُمُعات التظاهر» لم تكتسب التحركات الشعبية المعارضة زخماً كافياً للإطاحة بالنظام وسط اتهامه من قبل عواصم الغرب والخليج وحلفاء الأمس في تركيا وقطر بقمع المتظاهرين.
ولكن بمرور الأشهر بدأت ملامح التحول إلى العمل العسكري والرهان على إسقاط النظام بقوة السلاح، فظهر ما يسمى بـ«الجيش الحر»، ثم تتالت التشكيلات القتالية لتغرق سوريا في سلسلة حروب وجبهات بين المعارضة والنظام، وبين المعارضين أنفسهم، فيما تبدو الخريطة الميدانية متباينة من منطقة لأخرى، لكن في المحصلة وبعد ثلاث سنوات من الصراع احتفظت الدولة السورية والقوات الموالية لها بالسيطرة على جميع المدن الكبرى ومراكز المحافظات في البلاد باستثناء الرقة، التي تحولت الى «إمارة إسلامية»، وشرق حلب الذي يسيطر عليه مسلحون من مختلف التنظيمات.
ومع بداية العام الرابع.. تسارعت الإنجازات الميدانية للجيش السوري الذي تمكن الأسبوع الماضي من إزاحة عبء كبير عن كاهله، وكاهل ريف حمص الغربي، بسيطرته، على آخر ملجأ للمسلحين في قلعة الحصن التاريخية، وذلك بعد تحصنهم فيها لما يزيد عن عامين، وهو تطور عسكري له اهميته الاستثنائية بعد معركة يبرود، اذ يساهم في تعزيز أمن الطريق الدولي الذي يربط بين العاصمة دمشق ومنطقة الساحل السوري، ولكنه أيضاً عزل العمق اللبناني بحيث كل قدرة الإسناد والتموين العابرة للحدود من لبنان، تكون قد اندثرت، وأن رهان الحليفين يبقى على إمكانية الحفاظ على هذا النصر الميداني لوقت طويل، علما أنها لن تكون مهمة سهلة، في ظل التوتر الإقليمي القائم.
ومع انتصارات الجيش السوري في ريف دمشق وحمص، واستعداد الرئيس بشار الأسد لخوض الإنتخابات الرئاسية هذا الصيف، حاول المسلحون الرد جنوباً باقتحام سجن درعا المركزي، كذلك بهجوم واسع على معبر كسب في شمال اللاذقية، لكن القوى في الميدان تميل بوضوح لصالح الجيش والقوات الموالية له وفي مقدمتها «حزب الله» الذي شارك في معركة يبرود التي انتهت بفضيحة عسكرية مع هرب مئات المسلحين الى قرى قريبة أو الى جرود عرسال حيث انتشر الجيش اللبناني.
وبسيطرة الجيش على قلعة الحصن، باعتبارها نقطة تواجد المسلحين الأخيرة في ريف حمص الغربي، وبذلك يكون قد انتهى تماما من عملية تطهير الحدود اللبننية الشمالية، خلافا لما هو عليه الوضع في الريف الشمالي الممتد نحو حماه، حيث يتمركز عدد كبير من الكتائب المسلحة في مدينة الرستن، والتي ستتأخر على ما يبدو معركتها، بسبب اتصالها بريف حماه المتوتر، وارتفاع عدد المقاتلين المتواجدين فيها.
كما سيتمكن الجيش، بانتصاره في معركة القلمون والتي دخلت مراحلها الأخيرة، من إقفال طرق الإمداد من شمال وشرق لبنان إلى المجموعات المقاتلة في غرب سوريا، والتي تضاءل حجمها بشكل جذري في الأسابيع الأخيرة.
الخريطة القتالية
من المعروف أن المواجهات امتدت ولاتزال مشتعلة في مختلف المناطق السورية، إلا أن توزع القوى ما زال يميل لصالح النظام، ومع أن المعارضة المسلحة باتت تسيطر على مساحات واسعة، إلا أن الجيش أثبت قدرته على حسم جميع المعارك التي خاضها من بابا عمرو في حمص وصولا الى يبرود. ولكن بعد ثلاث سنوات عما أُطلق عليه -بدايةً- اسم «الثورة السورية»، وما تخللها من انتهاكات منظمة للحدود من جميع الجهات، باتت تنتشر اليوم عشرات آلاف المسلحين الأجانب والعرب على جبهات القتال لاسيما في شمال البلاد حيث تمكن النظام من الصمود في حلب رغم سقوط شرق العاصمة الإقتصادية للبلاد بيد الجماعات المسلحة التي تنتشر اليوم في معظم أرجاء محافظة الرقة بما في ذلك المدينة، كما يسيطرون على معظم ريف دير الزور وإدلب والحسكة، وينتشرون بنسبة أقل في ريف حلب ودرعا وريف دمشق واللاذقية، بينما لا يزال النظام يحكم قبضته على مراكز المدن ويتحكم فيها بالمطارات المدنية والعسكرية كافة، باستثناء مطار منغ العسكري، كما أعاد العمل بمطار حلب الدولي مؤخراً.
في المقابل، تمكن الجيش من حسم المعارك في حمص وريفها، لتعود تدريجياً إلى قبضة الدولة، بداية من أحياء مدينة حمص مثل باب السباع وبابا عمرو ثم الريف الغربي في تلكلخ ومحيطها، والجنوبي في القصير، ليبقى الجزء الواقع في شمال المدينة والأحياء القديمة، وهي مناطق تفرض عليها القوات النظامية حصاراً خانقاً في مشهد يشبه إلى حد كبير جبهة ريف دمشق، حيث الحصار المحكم حول الغوطة الشرقية معقل الكتائب والألوية المسلحة.
الوضع في دمشق تبدل تماماً عما كان عليه قبل عام حين كانت المعارضة تهدد بدخول دمشق. بل حيث تقدم الجيش في الشتاء الماضي واستعاد بلدات حجيرة وبويضة وسبينة الصغرى والكبرى، فيما أعلنت المعضمية وببيلا وبيت سحم الهدنة، وتمكنت من توقيع اتفاق تهدئة قبل بضعة أسابيع.
وفي الشمال، يبدو الوضع أكثر تعقيداً. فبالرغم من سيطرة المسلحين على أجزاء كبيرة في محاذاة الشريط الحدودي، إلا أن تقدم «داعش» (الدولة الإسلامية في العراق والشام) على الأرض، أعاد خلط الأوراق وفرضها كقوة نجحت في التمسك بمعاقلها والتقدم إلى مواقع جديدة، حيث أعادت سيطرتها على مدن في الريف الشرقي لحلب مثل الباب ومنبج وامتدت إلى أحياء في المدينة كحي الهلك، بينما تمكن النظام من استرجاع الريف الجنوبي حيث مواقع إستراتيجية تفتح طرق الإمداد إلى المدينة وتعيد قلب المعادلة العسكرية كما حصل في السفيرة وخناصر ومن ثم في منطقة الشيخ نجار، بينما يبدو الوضع أفضل بقليل في إدلب بعد انسحاب التنظيم المتشدد من مواقعه.
أما في الساحل السوري، فيتمسك النظام بسيطرة مطلقة على كافة المناطق باستثناء جزء في جبل الأكراد والتركمان حيث لقيت محاولة المعارضة لفتح جبهة هناك فشلاً كبيراً. يذكر أن معظم المناطق التركمانية في سوريا تحولت الى ما يشبه غرف عمليات للمسلحين.
في جنوب البلاد وتحديداً في محافظة درعا، حيث تم التلويح مؤخراً بهجوم عبرها يستهدف العاصمة وصفه الأسد بمجرد تهويل، إذ لا يزال النظام يتحكم بالطريق الرئيسي الواصل بين سهل حوران ودمشق وإلى الحدود الأردنية ومعه عدة بلدات مهمة جغرافياً، مثل الصنمين ونوى وازرع وتل الجابية، وكذلك درعا المحطة وخربة غزالة، بالإضافة إلى أكثر من خمسة مواقع عسكرية تنطلق منها الهجمات على كافة مناطق سيطرة المسلحين في الريف الحوراني وامتداده إلى هضبة الجولان، حيث تقول الفصائل وناشطون إنها تسيطر على 80 بالمئة من ريف القنيطرة حيث الجولان المحتل والعمق الإسرائيلي للمسلحين.
حال المعارضة المسلحة والفصائل
أعادت التطورات العسكرية ترتيب الفصائل المسلحة، فأصبح «الجيش الحر» بمثابة الحلقة الأضعف، وتقدمت مجموعات جديدة وأخرى تشكلت بقرار استخباراتي غربي أو إقليمي.
ولعل تنظيم «داعش» القادم من العراق قد حجز لنفسه موقعاً أساسياً في المشهد العسكري، على اعتباره الأكثر إثارة للجدل بعدما هادنته عشرات الكتائب والألوية، وانضمت إلى صفوفه ودافعت عن ديكتاتوريته المطلقة، قبل أن تنقلب عليه تدريجياً، ويشن هو في المقابل حروباً ضد كافة الكتائب والألوية، عزز من خلالها مواقعه في الرقة، وتمدد إلى ريف دير الزور وجنوب الحسكة، بالإضافة إلى ريف حلب، مستعملاً سلاحه الأبرز، وهو السيارات المفخخة والسائقين الانتحاريين.
وهناك تنظيم «جبهة النصرة» المرتبط بفكر «القاعدة» السلفي الجهادي الذي تبنى العديد من الهجمات الإرهابية في سوريا، وفي كانون الأول (ديسمبر) 2012 قامت الحكومة الأميركية بتصنيف «النصرة» على أنها جماعة إرهابية وهو الأمر الذي لقي رفضاً من ممثلي المعارضة السورية وقادة الجيش الحر وأطياف واسعة من المعارضة.
وفي 30 أيار (مايو) 2013 قرر مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة بالإجماع إضافة «جبهة النصرة لأهل الشام» إلى قائمة العقوبات للكيانات والأفراد التابعة لتنظيم «القاعدة».
من جهة ثانية، شكل إعلان «الجبهة الإسلامية» حدثاً بارزاً باندماج «جيش الإسلام» و«لواء التوحيد» و«أحرار الشام» و«لواء الحق» و«صقور الشام» و«الجبهة الإسلامية الكردية»، حيث أصبحت أكبر المجموعات لناحية العدد والقوة العسكرية ويعتبر المراقبون هذه الجبهة مرتبطة بجماعة «الإخوان المسلمين» المتحالفة مع قطر وتركيا والتي خسرت الحكم في مصر وتونس.
وعلى عكس توقعات الراغبين بإسقاط الأسد لم تتمكن «الجبهة» من تحقيق شيء يذكر الى الآن، بل على العكس تلقت ضربات موجعة على يد «داعش»، كاغتيال العشرات من كوادرها بمن فيهم أبو خالد السوري مؤسس «أحرار الشام»، يضاف إلى ذلك إخفاقها على أكثر من جبهة كحال معارك الغوطة الشرقية ومعارك القلمون وريف حلب الشرقي.
Leave a Reply