لا تعترف الثورات بالمراحل. من أبرز سماتها اختصار المراحل وإحداث التغيير الجذري.
في 25 كانون ثاني (يناير) الماضي، خرج الملايين من أبناء مصر مطالبين بداية، بإسقاط الرئيس. “الشعب يريد إسقاط الرئيس”. بدا هذا الشعار وكأنه جسر العبور إلى الثورة. لم يكن إسقاط الرئيس “مرحلة”، بل بصورة أدق، فاتحة لثورة لن تقف عند هذا الحد. ساعات وصار الشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. هذا من بديهيات الثورات.
لكن هذا الشعار أثار الرعب في أكثر من عاصمة معنية بما يجري هذه الآونة في أرض الكنانة. والمعنيون هنا اكثر من أن يحصوا، بدءا من واشنطن، وصولا إلى تل أبيب. ثمة دول وكيانات وأشباه دول وكيانات تقع على خط الزلزال المصري. وثمة عروش ومناصب “رئاسية” وملكية وأميرية شعرت بارتدادت هذا الزلزال منذ إندلاع “ثورة الشبان الأحرار”. وثمة عواصم مؤثرة عاشت ولاتزال حال طوارئ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على هدير الثورة المصرية التي باغتت بسرعتها ودينامياتها الرعاة الدوليين للأنظمة المهتزة، بفعل الحدث التاريخي المصري.
مصر ليست تونس، من حيث موقعها الجيو-سياسي، والثورة المصرية، في حال اكتمالها ونجاحها في إسقاط نظام حسني مبارك، بعد نجاحها في إسقاطه شخصيا، عبر انتزاع موقف منه بعدم الترشح ثانية، من شأنه أن يقود الى سلسلة من الانهيارات الاقليمية التي لن تقف عند حد.
الكل في المنطقة قلق، وأكثرهم قلقا هم حكام تل أبيب الذين شرعوا في التعاطي مع مرحلة ما بعد حسني مبارك، بتداعياتها التي سوف تتخطى من يسيطر على معبر رفح الحدودي، الى أساس العلاقة الإسرائيلية–المصرية التي تحكمها اتفاقية كامب ديفيد.
ثمة في إسرائيل من بدأ يتحدث عن ضرورة الشروع في تغيير عقيدة الجيش بعد أكثر من عقدين على معاهدة السلام الاسرائيلية المصرية التي أقفلت جبهة رئيسية من جبهات الصراع العربي الاسرائيلي. هنالك أصوات في إسرائيل تحذر أيضا من غرق شوارع العاصمة الأردنية ومدن الضفة الغربية المحتلة بملايين المتظاهرين، وتضع سيناريوهات لسقوط وريث العرش الهاشمي وزعيم السلطة الفلسطينية، وتدعو إلى تخيل المشهد الجديد في غياب ضابط الايقاع المصري.
مصر ليست تونس بالفعل، وما قد تحدثه “ثورة الشبان الأحرار” من تغيير بنيوي في النظام الذي قام على أنقاض الحكم الملكي قبل نحو ستة عقود، سوف يلقي بظلاله الكثيفة على منطقة برمتها عاشت عهود استقلالات كيانية ملتبسة وهشة.
ولأن مصر ليست تونس، نشاهد ونلمس كيف أن الإدارة ألأميركية لا تنام، مثلها مثل ثوار ميدان التحرير من الشباب المصري الذين أظهروا حتى الآن مقاومة أسطورية لكل انواع الترهيب والترغيب وقدموا شهداء وجرحى بالمئات، ولكن روح التمرد والثورة بقيت أقوى من كل المؤثرات والضغوطات.
الإدارة الأميركية، تعيش الأزمة كما لو أن الثورة في شوارع كاليفورنيا أو نيويورك: من الرئيس الذي ظهر مرتين منذ اندلاع الثورة ليؤكد على “الثوابت الأميركية” في حرية التعبير السلمي والديموقراطي إلى وزيرة الخارجية ووزير الدفاع وقائد الأركان. لقد تحولت الإدارة الى خلية ازمة، لأن مصر ليست تونس…
لا بأس بالتضحية بما تبقى من أشهر في ولاية حسني مبارك والانتقال السلمي و”المنظم” للسلطة. لكن الأميركيين يحاذرون الدخول في التفاصيل أقله علنا. وهم على الأرجح يقفون وراء خطوة تعيين مبارك نائبا له هو مدير المخابرات عمر سليمان في خطوة ظل الرئيس الطاعن في السن يؤجلها طيلة فترات ولاياته الرئاسية لأسباب لها علاقة بالتوريث العائلي.
لكن الثورة المصرية التي نجحت حتى الآن في وضع حد للتجديد والتوريث، وفتحت الباب واسعا أمام تغيرات تلبي مطالب الفئة الشبابية التي تشكل أكثر من نصف الشعب المصري، هذه الثورة لاتزال تصطدم بجدار النظام المنيع والممانع لأي تغيير جوهري والذي لايزال يتمتع بحماية دولية، رغم النداءات الرئاسية الأميركية والأوروبية والدولية المنافقة المطالبة بتحقيق تغيير “فوري”. فها هو الرئيس الذي يقف على أطلال فترته الرئاسية الأخيرة وتهتز الأرض تحت قدميه يرفض بـ”أدب”، مزامير أوباما، محيلا إياه على محاولة فهم “الثقافة المصرية” وهي بالطبع ليست تلك “الثقافة” التي شاهدها العالم عبر شاشات التلفزة وهي تمتطي الخيول والجمال وتتسلح بالسيوف والمدى في محاولة قمع وتفريق من جمعتهم وسائل التكنولوجيا الحديثة من “تويتر” و”فيسبوك” ورسائل نصية، وقضايا يوافقهم العالم على عدالتها ومشروعيتها، لكنه لا يفعل إزاءها سوى التعاطف اللفظي الذي لا يقدم لثوار ميدان التحرير أية حماية عملية، بل يقوم باستخدامهم لمساومة نظام يريد له الاستمرارية، فيرغمه على تقديم تنازلات وقرابين.
يريد النظام احتواء الثورة ويختلف في مسعاه مع حماته الدوليين حول الأساليب، لا الأهداف.
بالمقابل ثمة ثورة لا تفقه أنصاف الحلول، وليس في قواميسها مساحة لمفردات المساومة. من “جمعة الغضب” إلى “جمعة الرحيل” تحافظ الثورة على زخمها ويحتفظ النظام بآخر أدوات القمع الفظ.. والناعم.
ثمة ثورة خرجت من قمقم الانتظار الطويل ويستحيل إعادتها إليه. وثمة نظام ولد من رحم ثورة وتحول إلى سلطة قمع للجماهير يراهن على الساعات والأيام للخروج من نفق، لا بريق ضوء في نهاياته المفتوحة على كل الاحتمالات.
تصر الثورة المواطنية المصرية على اضاءة ليل مصر الطويل بأنوار الحرية والعدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي والاقتصادي، على أيدي شباب ليس لهم قيادة ولا يعتنقون أيديولوجيا بعينها، فيما يتعنت نظام مدجج بكل أدوات القمع ويمتلك طاقات التنظيم وقدرات المناورة وله قيادة تبدو حتى الآن متماسكة حول صون النظام ومد حياته الى أقصى مدى زمني ممكن، ولو كانت النتائج كارثية على مستوى الدولة وبنيانها ومؤسساتها.
مصر تعيش لحظات مصيرية والثورة المصرية أشبه بعربة انطلق محركها لكن مقعد القيادة لايزال خاليا بانتظار أن تجد من يقودها الى وجهة آمنة وسط كم هائل من المطبات والرغبات والمطامح المتمايزة أو حتى المتناقضة.
Leave a Reply