تونس – خاص “صدى الوطن”
هكذا، وبدون سابق إنذار أو مقدمات، أصبح ما كان يعتبر مستحيلا أمراً سهل التحقيق. دكتاتور عربي يسقط في الشارع عبر ثورة حقيقية.
وربما بذلك تكون ثورة تونس أول ثورة في الألفية الجديدة غير ملونة وبلا شالات، تسبق بتطوراتها المتتالية الإعلام على عكس الثورات الملونة تفرض نفسها على غرف القرار ولا تُفرض منها.
ورغم تهويل الإعلام الغربي و”العربي” بالفوضى والسلب والنهب، لم يتوان الشعب التونسي عن ثورته المستمرة. فطرد الدكتاتور، ثم حارب أزلامه على الأرض، وطارد أذياله وحاشيته حتى أصبحت الدول الأجنبية “ذات المصالح” في تونس الخضراء تضرب أخماساً بأسداس، وتنشط في لملمة ما يمكن لملمته من الوضع.
ثورة مستمرة
في السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1987 أعلن الوزير الأول التونسي (ووزير الداخلية أيضا) يومئذ زين العابدين بن علي توليه زمام السلطة والإطاحة بنظام الرئيس الحبيب بورقيبة وإقامة نظام بوليسي بامتياز قام بقمع الإسلاميين واليساريين والعروبيين وغيرهم ورفع شعار العلمانية والتنمية الاقتصادية.
وقبل شهر من الآن، أي بعد ٢٣ عاماً، انفضح زيف الشعارات أمام العالم فانطلقت شرارة التغيير في مدينة سيدي بوزيد التونسية لتصل العاصمة تونس بعد أن كانت في بداياتها مجرد تظاهرات احتجاجية على الأوضاع الاقتصادية وسوء توزيع الثروة.
لكن الأوراق اختلط فيها الاقتصادي بالسياسي، وتاقت أنفس الناس للتغيير فطالبوا برحيل بن علي، ورفعت الشعارات السياسية التي لخصتها إحدى اللافتات قائلة: “خبز وماء.. وبن علي لا”.
وفي الأيام الأولى من التحرك الشعبي بدا بن علي ممسكا بزمام الأمور يصف المتظاهرين بالإرهابيين، ويعد بمنح 15 مليون دولار لتنمية تلك المناطق، تطورت لاحقا لخمسة مليارات دولار (يقال أنها كانت منحة سرية من ليبيا)، وصعد القناصة أسطح المنازل ونزلت الشرطة والعصابات القمعية الى الشارع لمواجهة الناس، ولم تفلح سياسات الوعيد والتهديد، كما لم يخف الناس عدد القتلى المتصاعد (أكثر من مائة قتيل).
ثم طأطأ بن علي لمطالب الجماهير على ألسنة وزرائه ووزيره الأول محمد الغنوشي، بل طأطأ رأسه بنفسه بعد أن أقال مسؤولين كبارا، من ضمنهم وزير الداخلية، كما طأطأ أكثر عندما ناشد الشعب، بخطاب “الآن فهمتكم”، وقف العنف ومتعهدا بالإصلاح السياسي، ومطالبا بمنحه فرصة، متعهدا بعدم الترشح، وهو ما لم يهدئ المتظاهرين الذين “فهموا” ضعف بن علي، فحاصروا وزارة الداخلية التي كانت رمز سلطة اعتمدت على الشرطة، وهمشت القوى الأخرى بما فيها الجيش.
تسارعت التطورات ولم يكن قد جف بعد حبر التعليمات التي قال بن علي قبل إنه قد أصدرها بالكف عن إطلاق الرصاص الحي على المحتجين، خلال الخطاب الذي أدلى به مساء الخميس قبل الماضي ووعد فيه أيضا بتفعيل التعددية وإحياء الديمقراطية والإستجابة لمعظم المطالب المرفوعة. فأطاح سفك الدماء المستمر في قلب العاصمة تونس بالفرصة الأخيرة لإستعادة الثقة بالوعود الرئاسية، إذ سقط العدد الأكبر من الضحايا خلال معركة دامية دارت قرب مقر وزارة الداخلية، ولجأت خلالها القوى الأمنية فجأة إلى القنابل المسيلة للدموع لتفريق ومطاردة تظاهرة بدأت سلمية عند الصباح. وتدهورت الأمور أكثر لتصل إلى إطلاق الرصاص على بعض المحتجين.
وعند السادسة مساء الجمعة ١٧ كانون الثاني (يناير) طوت تونس صفحة زين العابدين بن علي بإقلاع طائرته دون عودة من مطار قرطاج وترك الرئيس السابق لرئيس وزرائه محمد الغنوشي أن يتولى رئاسة مؤقتة، أُطلقت على الفور شكوك بدستوريتها فتمسك المتظاهرون التونسيون بالشارع رفضاً للعملية “الالتفافية” فطالبوا بسقوط “ذيل الدكتاتور”.
فوجد المجلس الدستوري التونسي مخرجاً باعتبار أن الغنوشي ليس رئيساً للبلاد بل الرئيس المؤقت حسب الدستور (المادة ٥٧)، وهو رئيس مجلس النواب محمد فؤاد المبزّع. ورغم أن تعيين الأخير في سدة الحكم يقلص احتمالات عودة بن علي للبلاد، فإن ذلك لا يعني أن الرئيس الجديد وجه محبوب للمواطنين التونسيين، بطبيعة الحال.
فاستمرت التظاهرات والمواجهات مع أزلام بن علي في الحرس الرئاسي وأجهزة الأمن يمواجهة الجيش، ولم يترك الشعب التونسي العنيد والواعي الشارع رغم الدعوات الدولية والعربية بوقف الفوضى.
لجأ المبزع لتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة الغنوشي لتشرف على انتخابات في البلاد في غضون ستة أشهر (المهلة القانونية من ٤٥ الى ٦٠ يوماً)، وعند تشكيلها ضمت الحكومة الجديدة أبرز جهات المعارضة، وأعلن الغنوشي التزام حكومته بالإفراج عن السجناء السياسيين، وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ومحاربة الفساد السياسي والتجاوزات، والتحقيق مع أصحاب الثروات الهائلة، أو المشتبه في فسادهم.
ولكنها أبقت على الحقائب الوزارية السيادية بيد رموز النظام السابق، فكان بين أعضائها ستة وزراء من حكومة بن علي، كما تم إلغاء وزارة الإعلام.
وشملت أبرز التغييرات إسناد حقائب وزارية لوجوه في المعارضة مثل أحمد إبراهيم ومصطفى بن جعفر ونجيب الشابي، بينما بقي رئيس الوزراء محمد الغنوشي، ووزراء الداخلية والخارجية والدفاع في مناصبهم.
لكن الاحتجاجات في تونس العاصمة ومعظم المحافظات استمرت احتجاجاً على تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية التي أعلنت الاثنين الماضي ورفضت إشراك الحزب الحاكم السابق فيها، وتماهت بعض أطراف المعارضة وعلى رأسها “الاتحاد العام التونسي للشغل” مع إرادة المتظاهرين وقدم وزراؤها استقالاتهم من الحكومة الجديدة قبل أول اجتماع لها. واستمر الضغط على الغنوشي الذي تحدث إلى “راديو 1” الأوروبي، فبرر استمرار بعض الوزراء في مناصبهم المهمة، مثل الداخلية والخارجية والمالية، بالقول إن البلاد “تحتاجهم في الفترة الراهنة”.
وتابع الغنوشي قائلاً: “جميع من حافظوا على حقائبهم يمتازون بنظافة الكف، وقد تمكنوا من خلال قدراتهم الكبيرة من الحد من آثار الدمار الذي تعرضت له بعض المناطق والقطاعات”، وتعهد في الوقت عينه بـ”عدم نسيان” التجاوزات التي قام بها البعض في السابق.
وأمام غضب الشارع المستمر، قدم الرئيس التونسي المؤقت، المبزع، والغنوشي، تنازلاً جديداً حيث قدما استقالتهما من عضوية حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي حكم البلاد لعقود طويلة. ثم عاد حزب “التجمع الدستوري الديمقراطي” ليحل ديوانه السياسي (المكتب السياسي) وسط تواصل المظاهرات في مختلف المدن التونسية المطالبة بحل الحزب وخروج رموزه من الحكومة المؤقتة، وقبيل أول اجتماع للحكومة الجديدة.
وقال الحزب في بيان صحفي “اعتبارا لاستقالة عدد من أعضاء الديوان السياسي للتجمع لأسباب مختلفة، يعتبر الديوان السياسي في هذه الحالة منحلا ويتولى الأمين العام محمد الغرياني وقتيا تصريف شؤون الحزب لاتخاذ ما يتعين من الإجراءات بالنسبة لوضع الحزب في ظل متطلبات المرحلة الجديدة”. وأضاف أن الحزب “يدعو مناضليه، في هذا الظرف الحساس، إلى المساهمة في تدعيم التضامن والترابط بين التونسيين والتونسيات في ظل مبادئ ثورة الشعب وإخلاصا لشهدائها الأبرار والعمل مع الجميع من أجل بناء ديمقراطية جديدة لا إقصاء فيها ولا تهميش”.
وقال التلفزيون التونسي الرسمي إن جميع الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة الذين ينتمون إلى الحزب الحاكم سابقا (التجمع الدستوري الديمقراطي) أعلنوا الخميس الماضي استقالتهم من الحزب.
وتضم الحكومة المؤقتة أربعة عشر وزيرا من الحزب الحاكم سابقا منهم ستة وزراء كانوا في اللجنة المركزية للحزب، ووزير واحد كان عضوا في المكتب السياسي، هو وزير الخارجية كمال مرجان. كما أعلن وزير التنمية الإدارية في الحكومة المؤقتة زهير المظفر استقالته من الحكومة، ويعتبر المظفر من رموز الحزب الحاكم، وأصدر عددا من الكتب والدراسات الدعائية لهذا الحزب ولشخص بن علي، ويعتبره معارضوه من منظري نظام بن علي.
ملاحقة بن علي
من جهة أخرى أعلنت ثلاث منظمات غير حكومية أنها رفعت شكوى ضد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي (الهارب الى السعودية) وبعض المقربين منه في باريس. وذكرت إذاعة “فرانس إنفو” أن منظمات “شيربا” و”الشفافية الدولية” و”اللجنة العربية لحقوق الإنسان” رفعت الشكوى التي تتهم فيها بن علي والمقربين منه بالفساد الأربعاء الماضي. وتشمل التهم الموجهة لبن علي الفساد واختلاس الأموال العامة واستخدام ممتلكات عامة لأغراض شخصية وسوء الائتمان وتبييض الأموال، ويطالب المدعون بتجميد الأرصدة لإعادتها إلى الشعب التونسي.
وكان المتحدث باسم الحكومة الفرنسية فرنسوا بورون أعلن الاثنين الماضي أن باريس ستتعاون مع السلطات التونسية لحلّ مسألة أملاك بن علي في فرنسا.
كما قال التلفزيون الرسمي في تونس اليوم الخميس إن البنك المركزي أصبح الآن يسيطر على بنك الزيتونة الذي يملكه صخر الماطري زوج ابنة الرئيس المخلوع بن علي. وجاءت هذه الخطوة بعد يوم من القبض على 33 من أقارب بن علي بتهمة ارتكاب جرائم في حق الأمة، وأظهر التلفزيون التونسي لقطات لما قال إنها مشغولات ذهبية ومجوهرات مصادرة. كما جمدت سويسرا أرصدة عائلة بن علي.
ثالث رئيس لتونس
محمد فؤاد المبزع هو الرئيس الثالث في تاريخ تونس بعد زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة. وكان المبزع (7١ عاما) رئيسا لمجلس النواب التونسي، حتى أعلنه المجلس الدستوري في البلاد رئيسا مؤقتا لتونس، بعد خلاء المنصب إثر هروب الرئيس بن علي، بعد أن تولى مقاليد الحكم لفترة تجاوزت 23 عاما. ويطالب الدستور التونسي، المبزع، بوصفه الرئيس المؤقت للبلاد بالدعوة لإجراء انتخابات جديدة في غضون ستين يوما. وكان رئيس الوزراء التونسي محمد الغنوشي أعلن نفسه الجمعة رئيسا “مؤقتا” للبلاد عقب فرار الرئيس بن علي، وذلك بالمخالفة للدستور التونسي، الذي ينص على تولي رئيس مجلس النواب مقاليد الحكم في حال فرغ المنصب من الرئيس. ولد المبزع في السادس عشر من حزيران (يونيو) 1939، وتولى العديد من الحقائب الوزارية في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، كما عمل سفيرا لتونس لدى الامم المتحدة ثم رئيس بلدية العاصمة تونس.
Leave a Reply