كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم يحصل في تاريخ لبنان الحديث، أن انفجر شعبه، بمواجهة السلطة الحاكمة، إلا مرة واحدة عندما قامت جبهة سياسية وحزبية باسم «الجبهة الاشتراكية الوطنية» كان من رموزها كميل شمعون وكمال جنبلاط وغسان تويني ممثلاً الحزب السوري القومي الاجتماعي وشخصيات سياسية كحميد فرنجية، تحت عنوان إسقاط عهد الرئيس بشارة الخوري في أيلول 1952، وذلك بعد التجديد له لمدة ست سنوات وقد شهد عهده الفساد والتسلط وتزوير الانتخابات، فحصل عصيان مدني دام نحو ثلاثة أيام تخللتها سلسلة تظاهرات واعتصامات، فرضت على الخوري الاستقالة، فقامت حكومة انتقالية برئاسة قائد الجيش آنذاك اللواء فؤاد شهاب، قبل أن ينتخب مجلس النواب شمعون رئيساً للجمهورية، والذي أطيح به في ثورة 1958 التي دخلت فيها عوامل إقليمية ودولية.
غضب شعبي
عرف لبنان خلال السنوات الماضية حركات غضب شعبي، للمطالبة بحقوق سياسية واقتصادية واجتماعية، فكانت تحركات تقودها نقابات وأحزاب، لتحقيق إصلاح سياسي يتعلق بالنظام، أو آخر اجتماعي لتأمين ضمان صحي أو إقامة مستشفيات حكومية أو تحسين التعليم العام والجامعة اللبنانية، أو بشق طرقات وبناء سدود مياه، وتوفير الكهرباء ومياه الشفة، وقد نجحت بعض الحركات المطلبية في تحقيق بعض المطالب، لكنها لم تنجح يوماً في التخلص من آفة الطائفية التي هي علة النظام السياسي والسبب الأول للفساد المستشري في مختلف دوائر الدولة.
ورغم أن اتفاق الطائف نفسه يتضمن بنداً إصلاحياً بإنشاء هيئة وطنية لإلغاء الطائفية، إلا أنه ما لم يطبق قط، لتتحول الدولة خلال العقود الثلاثة الماضية إلى كعكة يتم تقاسمها بين السياسيين وفق نظام المحاصصة الطائفية تحت عنوان «العيش المشترك» و«الديمقراطية التوافقية». فتداخلت السلطات التشريعية بالسلطة التنفيذية فغابت المساءلة والمراقبة، ولم تحجب الثقة عن أي من الحكومات منذ الاستقلال في العام 1943، سوى عبر تحرك الشارع ضدها، كحكومة الرئيس عمر كرامي الذي استقال في 6 أيار 1992، تحت ضغط المطالب النقابية مع ارتفاع سعر الليرة أمام الدولار، وانخفاض القدرة الشرائية لدى المواطنين. وقد تبين أن الهدف وراء تحريك الشارع حينها، كان فتح طريق السراي الحكومي أمام الرئيس رفيق الحريري، الذي وصل إلى الحكم بدعم من السعودية وموافقة سوريا التي كانت مكلفة بتطبيق اتفاق الطائف الذي رعته الرياض، أمنت لنفسها من خلاله نفوذاً سياسياً ومالياً على لبنان عبر ممثلها الحريري، الذي استفاد من توسيع صلاحيات رئيس الحكومة وتحريره من هيمنة رئاسة الجمهورية.
وفي حقبة الحريرية السياسية، لم تعمل الحكومات المتعاقبة قط على تحويل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصادي إنتاجي، بل حرصت على إبقائه ريعياً يستند إلى الخدمات والسياحة بالدرجة الأولى، كما حرصت على تعزيز المصارف برفع الفائدة على سندات الخزينة، واعتماد سياسة الاستدانة، حتى تراكم الدين العام، ليصل إلى حوالي 90 مليار دولار، فيما ذهبت أرباح الفوائد إلى المصارف الدائنة.
تراكم الأزمات
السياسة المالية والاقتصادية للحقبة الحريرية، هي التي أوصلت لبنان إلى هذا التراكم من الأزمات على مدى ثلاثة عقود، بالرغم من بعض المحاولات الإصلاحية التي باءت بالفشل، بسبب تحكم قوى حزبية وسياسية في السلطة، حيث تغلغل الفساد في مؤسسات الدولة التي تحوّلت إلى محميات لأحزاب وقوى سياسية. إذ كان قانون الانتخاب يقام وفق النظام الأكثري الذي كان يعيد فرز الكتل النيابية نفسها في كل دورة انتخابية منذ أول العام 1992، وعندما أصبح قانون الانتخاب على النظام النسبي، أدخل عليه الصوت التفضيلي، لتنتخب كل طائفة نوابها، وقد سمي «بالقانون الأرثوذكسي المقنّع»، فلم يحصل أي تغيير يذكر في مجلس النواب الذي تقع عليه مسؤولية تشريع القوانين ومحاسبة الحكومة على أدائها، وهو ما لا يتم فتراكمت الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية التي بدأت تطل منذ منتصف تسعينات القرن الماضي.
لم تخلُ الحقبة الحريرية من المعارضين، فقد شهدت تحركات للاتحاد العمالي العام برئاسة أنطوان بشارة والياس أبو رزق، ومطالبات سياسية بتغيير الأداء الحكومي الذي تبنى شعار الإعمار من وسط بيروت، عبر شركة «سوليدير» التي امتلكها الحريري نفسه، فكان أشبه بمقاول أكثر منه رئيساً للسلطة التنفيذية، وقد لقي انتقادات من شخصيات سياسية بارزة مثل الرئيس سليم الحص وزاهر الخطيب ونجاح واكيم ونسيب لحود وحسين الحسيني وعمر كرامي وغيرهم في أحزاب وقوى سياسية معارضة للحريرية السياسية التي يحصد لبنان اليوم نتائجها
لكن الحريري وشركاءه في السلطة لم يتجاوبوا يوماً مع الأصوات المعارضة، بل كان الرئيس الراحل يردد مقولة له «شو سعره؟»، في إشارة إلى أنه كان يدفع أثمان السياسيين والإعلاميين لتطويق المعارضين وتظهير نفسه كرجل إعمار وبناء، وقد ترجمت جهوده في إعمار وسط بيروت، في حين ظلت بقية المناطق بعيدة كل البعد عن الإنماء المتوازن.
كلّن يعني كلّن
الشعار الذي يرفعه المتظاهرون في كل لبنان من الناقورة في الجنوب إلى النهر الكبير في الشمال، بتحميل المسؤولية إلى كل مَن كان في السلطة، هو ما أجمع عليه نحو مليون لبناني وربما أكثر، نزلوا إلى الساحات والشوارع، حيث اجتمعوا عفوياً على عبارة «كلّن يعني كلّن»، دون استثناء أحد من الأحزاب والقوى السياسية، التي تعاقبت على السلطة، في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، بل منذ الاستقلال، وهو ما دفع بالمتظاهرين إلى الهتاف بعبارات نابية مثل «حرامية» و«لصوص»، و«فاسدون» وناهبو الأموال العامة، ووصل بالمتظاهرين إلى تسمية شخصيات في مواقع المسؤولية، كان المس بها من المقدسات، فلم يتم استثناء أي مسؤول من توجيه الاتهامات نحوه، من أعلى الهرم، وهو رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة و128 نائباً والوزراء، وأحزاب، وكسر ذلك حاجز الخوف عند المواطنين في كل المناطق، فتمّ أسر المسؤولين في قصورهم ومنازلهم، ولم يجرؤ أي مسؤول على الخروج من منزله، أو التوجه نحو المتظاهرين، حتى لو كان نائباً سابقاً، فتم طرد النائب السابق مصباح الأحدب في طرابلس وهو ما أعطى المتظاهرين صدقية، بأن لا أحد يحركهم، سوى الجوع والفقر والحرمان والبطالة، وقد كان لافتاً بأن مَن خرج إلى الشارع هم من الطلاب والشباب، وهم الأكثرية بين المتظاهرين، إضافة إلى أصحاب حقوق، ومنها ما هو مزمن، والتي لم تلقَ التجاوب من الحكومات المتعاقبة.
دون قيادة
الإجماع اللبناني على رفض الطبقة السياسية التي تدعم الفساد والهدر، ولم تقدم على تحقيق إصلاحات مطلوبة منها دولياً لمساعدة الاقتصاد اللبناني، حيث كان منطق المحاصصة يفرض نفسه على المناقشات في مجلس الوزراء، سواء في إيجاد حلول للكهرباء، أو في خفض العجز بالموازنة، وصولاً إلى محاربة الفساد الذي لا يمكن أن يأتي من سلطة متهمة به. وهو ما كان العنوان الأول لمطالب المتظاهرين، الذين دعوا إلى سجن الفاسدين، واستعادة الأموال المنهوبة، وتشكيل حكومة من أصحاب كفاءة وخبرة، وهو ما لم يتوفر منذ عقود في لبنان، بسبب نظامه الطائفي ودستوره الذي يمنح الوزراء سلطة سياسية هي في الأصل يجب أن تكون محصورة بالسلطة التشريعية.
وبعد سبعة أيام من التظاهرات وقطع الطرقات، بات واضحاً أن الحراك الشعبي ليس له قيادة وبرنامج موحد، حيث تجري محاولات للتنسيق فيما بين الناشطين لتفادي الأخطاء التي وقعوا فيها منذ بداية تحركهم قبل سنوات.
فمع بداية ما سمي بـ«الربيع العربي» تحرك الشارع تحت عنوان إسقاط النظام الطائفي لكنه سرعان ما انكفأ في العام 2012، ثم عاود الكرة في العام 2015، بسبب أزمة النفايات، لكن المتظاهرين الذين تحركوا لأشهر تفرقوا وخفتت احتجاجاتهم وهو ما يتهدد الحراك الشعبي الحالي الذي يفتقد إلى قيادة ورؤية سياسية وبرنامج مرحلي. فالمطالب متعددة، من إسقاط النظام إلى رحيل رئيس الجمهورية واستقالة الحكومة وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وغير ذلك من المطالب التي بعضها فئوي، وبعضها الآخر ليس سوى محاولات لأحزاب وقوى سياسية لركوب الموجة الشعبية وتحقيق النقاط السياسية لتحسين مواقعها، مثل «القوات اللبنانية» التي استقال وزراؤها من الحكومة في محاولة منها للثأر من العهد بتهمة خيانة «اتفاق معراب» من قبل «التيار الوطني الحر». كذلك يسعى «الحزب التقدمي الاشتراكي» الذي لم يستقل من الحكومة، إلى التصويب على العهد وإضعافه بالمطالبة بإقالة جبران باسيل وتحميله مسؤوليه الأزمات التي تعيشها البلاد، وصولاً إلى محاولة البعض لاستغلال «الثورة» من أجل التصويب على سلاح «حزب الله» الذي دعم أمينه العام السيد حسن نصرالله التظاهرات، لكنه حذّر من استغلالها لأغراض سياسية تتطلع إليها بعض الجهات المحلية والإقليمية والدولية، رافضاً بالمطلق استقالة الحكومة أو الدعوة لإسقاط العهد، كي لا يقع لبنان في المجهول سياسياً واقتصادياً، وقد ينحرف نحو فوضى في الشارع تتحوّل إلى صدامات.
بعد إقرار الحكومة بعض الاجراءات الاصلاحية، لم يخرج المتظاهرون من الساحات، ولم تنفع تحركات «بلطجية»، بتخويفهم لأن الثقة بالحاكمين باتت مفقودة، إذ أن الأزمة عمرها من نشوء لبنان، بسبب نظامه السياسي المركب طائفياً، ونظامه الاقتصادي الذي يرهن الشعب للمصارف واحتكار الشركات.
ففي لبنان «ثورة» دون برنامج أو قيادة!
Leave a Reply