ما الذي يدفع بمسؤول الى التمسك بسلطة ولو شكلية، فيما الملايين من أبناء شعبه تهتف منادية برحيله، وتترقب تلفظه بتلك العبارة التي تزيح عبئا كبيرا عن كاهل بلد برمته: “أعلن استقالتي نزولا عند رغبة أبناء شعبي”.
بعد خطاب الرئيس المصري حسني مبارك مساء الخميس الماضي الذي فوض فيه “اختصاصات الرئاسة” إلى نائبه عمر سليمان بعد سلسلة واسعة من التوقعات بتنحيّه امتدت من ميدان التحرير إلى العواصم العالمية، هل بتنا بحاجة إلى تحليل نفسي عوضا عن التحليل السياسي الذي أعيته، حتى الآن، تطورات ثورة الشعب المصري الرافضة لنظام قمعي استمر 30 عاما؟
يبدو أن “حرباً نفسية” هي التي بدأت تتجسد على مسرح الصراع بين إرادة الجماهير المصرية وإرادة سلطة لم تبد حتى اللحظة استعداد للإصغاء الى مطلب الشعب المصري الذي يختصره نداء “ارحل” المنطلق منذ نحو ثلاثة أسابيع من ملايين الحناجر.
ثمة حديث عن “أزمة ثقة” بين شباب الثورة في ميدان التحرير وسائر ساحات المدن المصرية، والنظام الذي ارتأى النزول درجة واحدة من درجات السلم بتسليم “اختصاصات الرئاسة” الى نائب رئيس، انبرى فورا الى محاولة “إقناع” أولئك الملايين المنتظرين على أحر من جمر تنحي الرئيس عن السلطة بأن عليهم “العودة الى ديارهم وأعمالهم” مع التعهد بـ”حماية الإنجازات” التي حققوها حتى الآن.
لكن في الشكل، نحن أما حالة تصادم بين “منطق الثورة” و”منطق الدولة”، أو بين “الشرعية الثورية” و”الشرعية الدستورية” والتدقيق في هذه الحالة من التناقض التي تعيشها مصر بين إرادة شوارعها وارادة سلطتها يشي بتعقيدات هائلة غير مرئية تتعدى آثارها الواقع المصري لتنسحب على المنطقة العربية، بل الشرق أوسطية برمتها، لأن ما يحدث في مصر من ثورة شبابية بكل نقائها وصدقها يهدد بالفعل بانهيارات متتالية لمنظومة الأنظمة السائدة منذ حقبة “الاستقلالات الوطنية” لدول تلك المنطقة.
والإرباك الذي يسود المسرح المصري المفتوح حاليا على جميع الاحتمالات، يطال العواصم المؤثرة في أوضاع المنطقة ومعادلاتها الدقيقة. فبعد تمهيد إعلامي أميركي وغربي لخطوة رئاسية تفتح الطريق أمام احتواء الثورة، وجدنا أن المستويات السياسية في واشنطن وباريس وبرلين، تعبر عن “حيرتها” من مضمون الخطاب الأخير الذي لم يلب رغبة الشباب المصري الثائر، مثلما لم يستجب لرغبة القادة الغربيين بـ”تغيير فوري” حفلت به نداءات هؤلاء القادة وهو لا يعبر عن حرص غربي حقيقي على التغيير في مصر، بقدر ما يثير هواجس من انفلات الأمور في منطقة شديدة التوتر وحبلى بتغيرات كان استحقاقها مسألة وقت لا أكثر.
وإذا كانت الإدارة الأميركية تسعى، بعد خطاب مبارك، إلى “الحصول على إيضاحات” حول مؤدى الإعلان عن تفويض اختصاصات الرئاسة من مبارك الى نائبه، فمن عساه يقدر على توقع ما ستحمله الايام المقبلة من تطورات؟ لقد أعيت ثورة الشعب المصري بالفعل كل التحليلات حتى الآن، وهذه الثورة التي لا تشبه أية ثورة شهدتها مصر في العصر الحديث، منذ ثورة عرابي في العام 1919 الى ثورة يوليو في العام 1952 التي قضت على العهد الملكي، تطرح تحديات تحليلية يهابها أكثر المراقبين والمحللين اطلاعا على تاريخ الثورات لا في مصر أو المنطقة العربية وحسب، بل على المستوى العالمي.
هذه ثورة أذهلت بسلميتها كل المحللين، وفاجأت بصمودها وإصرارها كل المستويات السياسية المستنفرة منذ 25 كانون الثاني (يناير) الماضي لمواكبة أحداثها ومآلاتها، نظرا للموقع الجيوسياسي الفائق الحساسية الذي تتمتع به مصر في منطقة تشابك مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية وسيكون لنتائجها تداعيات لا حصر لها على الاستقرار الاقليمي، بل العالمي.
يميل المراقب للحظة الى الاعتقاد بأن الرئيس الذي يحاصره شعبه بالملايين، في قلب عاصمته مطالبا إياه بالرحيل (عن السلطة) يجنح في عناده، نحو ضرب من السلوك الجنوني عندما يعلن عن بقائه، ولو رمزيا، على رأس سلطة يقوم بتجيير صلاحياتها الى أحد أركان نظامه، رغم ما ساقه من تعهدات بالاستجابة الى معظم مطالب الثائرين. لكن هذا الميل يعود ليدخل في دوامة الأسئلة الملحة التي لم تفلح كل التحليلات في الاجابة عنها حتى الآن.
ما هو سر هذا الاصرار الذي يبديه رمز نظام يدرك بكل حواسه الآن أن شعبه لم يعد يريده على رأس الهرم، ولو لأشهر قليلة.
لندع الحديث عن “كرامة الرئيس” وحفظها ولندع مقولة “صاحب الضربة الجوية الأولى” لأن جيل الثوار من المصريين الشباب في ميدان التحرير وفي سائر ساحات المدن المصرية لا يعتاش من “التألق الحربي للقائد” في زمن لم يكن قد رأى أبناء هذه الثورة النور بعد.
هذا جيل ولد بأكمله تقريبا في عهد رئاسي واحد، هو عهد حسني مبارك، ولم ير طيلة السنوات الثلاثين الماضية أية محاولة جدية من قبل هذا النظام لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لهذا الجيل، الذي ما برح يرقب تطور مجتمعات ودول لا يتفوق أهلها وشبابها على شباب مصر، لا في العلم ولا في المعرفة إلا بقدر ما تتيح أنظمتها فرص التطور والانفتاح على العصر وتتيح تداول السلطة والمشاركة واحترام مجتمعاتها المدنية التي تشكل العاصم الأول للأنظمة عن الانزلاق الى الفساد والاستئثار والتسلط.
ما تشهده أرض الكنانة من ثورة شبابية، آخذة بالاتساع مع انضمام شرائح عمالية إليها ينذر باحتمالات خطيرة على مستوى تماسك مؤسسات الدولة المصرية واستمرارها بسبب تعنت النظام واتجاهه الى تطويل معركة بقائه الى أقصى مدى ممكن. لم يستوعب النظام أن ثورة شباب مصر لم تنطلق وفي أذهان روداها ومحركيها خطط تفاوضية، بل هدف تغييري جذري لا يقيم وزنا “لوظيفة النظام الاقليمية” أو لتوازنات قوى تقتات من حطام أحلامهم بالتغيير وبمستقبل أفضل لهم ولجيل أبنائهم من بعدهم.
لقد مارس حماة هذا النظام في الداخل والخارج كل أنواع المناورات الاعلامية والسياسية لخداع أبناء الثورة المصرية بشعارات ونداءات تضمر غير ما تظهر، وأكثرها نفاقا وانكشافا هي تلك النداءات الصادرة عن الإدارة الأميركية وحلفائها الغربيين، الذين وضعوا الثورة المصرية على بورصة الاستثمار، فشهدنا صعودا وهبوطا لأسهمهم على مدى الأسابيع القليلة من عمر هذه الثورة النقية لشباب مصر.
ولعل آخر محاولة يقوم بتجريبها حلفاء النظام، بعد ادراكهم لاستحالة عملية تثبيته، رغم إرادة الملايين من أبناء الشعب المصري، هو محاولة ضرب هذه الثورة بالجيش المصري الذي لم يعرف منذ تاريخ تأسيسه قبل نحو قرنين من الزمن صداما مع شعبه.
فهل تفلح هذه المحاولة بوضع ثورة الشباب المصري أمام خيارين: إما استمرار النظام القائم ولو بأوجه جديدة، أو انقلاب عسكري مموه بالحفاظ على “مكتسبات الشعب المصري”، وبالتالي التأسيس لمرحلة جديدة من الديكتاتورية في عصر انهيار الدكتاتوريات في الشرق والغرب؟
لقد أظهرت القيادة العسكرية المصرية حتى الآن انضباطاً كبيراً والتزاماً عالياً بالمسؤولية تجاه حماية الثورة الشبابية المصرية. لكن أخطر ما يلوح في الأفق هو أن يدفع ضيق الخيارات على مسرح الأحداث الى استقرارها على صيغة من صيغ الحكم العسكري لمرحلة تعرف بدايتها، لكن يصعب تلمس نهاياتها.
ولأن التحليل والتوقع بإزاء هذه التطورات الدراماتيكية لحركة الشارع المصري، خصوصا بعد انضمام فئات عمالية الى هذه الثورة، هو مسألة تحتمل الكثير من الأخطاء، كما تعلمنا خلال الأسبوعين المنصرمين، فإن أية إجابات دقيقة لمآل التطورات تبقى عصية على كل التحليلات، ورهنا بما ستنجلي عنه حركة الشارع المصري، في الأيام القليلة المقبلة، وبموقف قيادة القوات المسلحة المصرية واتجاهات سلوكها وتفاعلها مع الثورة سلبا أم إيجابا.
نحن أمام مرحلة ضبابية بالكامل، وكل القلوب والعقول تبقى عند مصر وشعبها وجيشها، على أمل قيامة مصر وعودتها الى دورها الفاعل والمؤثر على الساحة العربية والاقليمية والدولية، مثلما عهدناها زمن القائد التاريخي جمال عبدالناصر.
Leave a Reply