من نكد الدنيا على جيلنا الذي توهم يوماً، بل آمن، بأنه سيغير العالم، أن يعاودنا القدر بمأساوية ساخرة وكأنه يهزأ من أحلام تطاولنا فيها على الواقع، أحلام أخرجتنا من قوقعات بدائياتنا واستكانة ولاءاتنا الموضعية الى أفق أرحب اسمه المستقبل، الأمل، التغيير، التطور…وللبعض من الأكثر حماساً فينا… الثورة.
كانت قضيتنا واضحة وواحدة، فلسطين؛ قبل أن نكتشف أن العسكر حوّلوها بالبلاغات رقم واحد إلى استثمار في التأبيد، ما لبث الكهنوت أن مارس فيه الربا الصرف. كان الحق معنا. حق لا لبس فيه، قبل أن نكتشف أن التأويل لا يعفي حتى الحق من التصنيف، ليصبح الحاكم الواصل إلى القصر على ظهر دبابة مفتياً في الحق وأصحابه، وصار المفتي المتحمس للزي العسكري وخصوصاً الحذاء، مستكتباً باسم الله على خلقه. كان الهدف معروفاً. التحرر والتحرير والحرية، قبل أن تتحول تلك الكلمات الى أسماء وهمية لجمهوريات وراثية وملكيات ثورية وتوليفات أين منها الشعوذة.
في عز الحصار الهمجي الإسرائيلي لبيروت صيف العام 1982، طلب مني المسؤول عني في صحيفة «السفير» أن أساعد في توفير معلومات عن الأسلحة المحرمة دولياً التي كانت القوات الغازية تجربها على الشعب اللبناني للمساهمة في شريط وثائقي لمخرج سينمائي يوثق لاحتلال أول عاصمة عربية. كان المخرج جان شمعون. سبقه صيته إلي وإلى أبناء جيلي بسنوات عبر أثير إذاعة لبنان في الصنائع (كانت الحرب قد قسمت الإذاعة الى فرعين الأول «وطني» في الغربية والثاني «كتائبي» في عمشيت). دخل جان شمعون بقامته الممشوقة، الطويلة كالرمح، وشاربه العريض المتواطئ مع صوته الخشن، ليظهّر صورة البعلبكي الذي أعلن في عز الموت «بعدنا طيبين…قول الله». صافحته بكثير من الفخر، وأنجزت ما طلبه بحماس.
كان لقاؤنا الثاني شخصياً أكثر ومؤلماً أكثر. نجت أمي في خضم تلك الحرب من مجزرة صبرا وشاتيلا، بعدما خطفها مرتزقة آرييل شارون وزبانيته من بيتنا (إن صح عليه لقب بيت) في مخيم شاتيلا. جاء جان شمعون مجدداً ليوثق الإرهاب الأصيل تحدث إلى أمي مطولاً في زيارات جعلت الصداقة بيننا حتمية. صداقة استمرت حتى ما بعد الغربة، التي عززتها، عندما كان جان ورفيقة عمره وكفاحه مي المصري يأتيان الى أميركا حاملين آخر إنتاج سينمائي لهما.
كان جان شمعون اللبناني المسيحي البعلبكي خريج الجامعات الفرنسية والفنان المبدع الذي ينتمي إلى الجيل المؤسس للشاشة الفضية اللبنانية مثالاً حياً للقدرة على الانفلات من التصنيفات البدائية، مناطقية كانت أو طائفية أم قُطرية. كان رمزًا للعمل من أجل الحق فانتمى إلى فلسطين قبل أن تصبح «مؤسسات فلسطين» في لبنان مقصدًا للمعتاشين والطامحين، وكذلك بعدها. الأهم أنه كان حريصاً على بناء ذاكرة لبنانية، فلسطينية، عربية لا تفرّط بالوقائع ولا تتشتت بالغرضيات.
وثّق جان شمعون بحرفية عالية الحرب في لبنان، كما دون بالصورة وقائع العدوان الإسرائيلي المتمادي، دخل الى حياة الناس المقهورين والمهجرين والمكلومين والمقاومين. أرّخ للحرب الأهلية بلسان مقاتليها ـ ووقودها من الطرفين. أبقى على ذكر المخطوفين والمفقودين واليوميات الكئيبة لأحبائهم وعائلاتهم، وساهم عن بعد مع شريكته مي المصري في نقل بعض الوقائع اليومية من حياة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، بالتوازي مع تسجيل حياة الفلسطينيين في الشتات. كان بناء الذاكرة المشروع الأساس لجان شمعون وشريكته.
أذكر مرة –أثناء جولة رافقته فيها في ولاية ميشيغن لعرض شريط وثائقي عن حكاية الحرب الأهلية (بيروت جيل الحرب)– أننا تعرضنا لموقف فيه شيء من الحرج. كان العرض في كنيسة في مدينة تعيش فيها عائلات لبنانية قديمة الهجرة. تقدم إليه رجل في السبعينات من العمر وتحدث إليه بفرح وحماس عن معرفته بالرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون أحد رموز الحرب الأهلية، وكيف كان الرئيس الراحل المعروف عنه حبه للصيد يأتي إلى قريتهم البقاعية وكيف كان المغترب الذي كان فتى في حينه لا يفارقه حتى يغادر، وكيف أن حبه للرئيس شمعون دفعه للحضور فقط ليسلم عليه لأنه عرف أنه من العائلة نفسها. استمع جان إليه باهتمام. سأله عن أحواله وعائلته وطلب اليه ان يحضر العرض. سألت جان على الفور ماذا ستفعل عندما سيكتشف صاحبنا طبيعة الفيلم. رد بهدوء: «إذا بقي شيء من الفيلم في ذاكرته تكون جولتي في أميركا كلها حققت هدفها».
أدرك جان شمعون السبعين من العمر قبل سنتين ونيف. لم يخسر الكثير من وسامته وطلته وصوته المميز. خسر ما هو أقسى وأمر وأدهى. خسر ذاكرته. وكأن القدر الذي أوصل جيلنا وهذا الجيل إلى الدرك الأسفل من البدائية والتباغض والعدمية، وأغرقنا في وحول الماضي بالضبط في اللحظة التي بدت فيها بعض تباشير الربيع، وأعاد شباب ديكتاتوريات وأبويات وضباط وشيوخ، كأن هذا القدر يصر على صفعنا في وجوهنا عقاباً على حلم وأمل. كأنه ينتقم لكل المقامات المزعومة التي رفضناها وكل الوجوه المحنطة التي لفظناها وكل الألقاب التي سئمناها.
رحل جان شمعون بلا ذاكرة في المدينة التي أحبها كثيراً دون أن يعرف انه لا يزال فيها. إلّا أن الذاكرة البصرية والسمعية، الذاكرة التأريخية التي صنعها ستبقى لأجيال لاحقة ربما ستكون لها فرصة أن تصنع قدرها بأيديها، وتكون بين أيديها وثائق ناطقة تعيد استقراء التاريخ.
أعلنت وفاة جان شمعون الخميس الماضي في العاشر من آب في بيروت بعد معاناة طويلة مع مرض الزهايمر.
ترك إرثاً توثيقياً وسينمائياً هاماً وأبرز أعماله فيلم روائي بعنوان «طيف المدينة» 2000.
أعماله الوثائقية:
تل الزعتر 1976
أنشودة الأحرار 1978
تحت الأنقاض 1982
زهرة القندول 1985
بيروت جيل الحرب 1989
أحلام معلقة 1992
رهينة الانتظار 1994
أرض النساء 2004
يوميات بيروت 2006
مسلسل إذاعي بعنوان «بعدنا طيبين …قول الله» 1976
Leave a Reply